تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{قَالُواْ يَٰنُوحُ قَدۡ جَٰدَلۡتَنَا فَأَكۡثَرۡتَ جِدَٰلَنَا فَأۡتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ} (32)

فلما رأوه ، لا ينكف عما كان عليه من دعوتهم ، ولم يدركوا منه مطلوبهم { قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } من العذاب { إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } فما أجهلهم وأضلهم ، حيث قالوا هذه المقالة ، لنبيهم الناصح .

فهلا قالوا : إن كانوا صادقين : يا نوح قد نصحتنا ، وأشفقت علينا ، ودعوتنا إلى أمر ، لم يتبين لنا ، فنريد منك أن تبينه لنا لننقاد لك ، وإلا فأنت مشكور في نصحك . لكان هذا الجواب المنصف ، الذي قد دعي إلى أمر خفي عليه ، ولكنهم في قولهم ، كاذبون ، وعلى نبيهم متجرئون . ولم يردوا ما قاله بأدنى شبهة ، فضلا عن أن يردوه بحجة .

ولهذا عدلوا - من جهلهم وظلمهم - إلى الاستعجال بالعذاب ، وتعجيز الله ، ولهذا أجابهم نوح عليه السلام بقوله : { إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ } أي : إن اقتضت مشيئته وحكمته ، أن ينزله بكم ، فعل ذلك . { وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ } لله ، وأنا ليس بيدي من الأمر شيء .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قَالُواْ يَٰنُوحُ قَدۡ جَٰدَلۡتَنَا فَأَكۡثَرۡتَ جِدَٰلَنَا فَأۡتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ} (32)

وقوله : { يا نوح . . . } ، الآية معناه : قد طال منك هذا الجدال ، وهو المراجعة في الحجة والمخاصمة والمقابلة بالأقوال حتى تقع الغلبة ، وهو مأخوذ من الجدل وهو شدة الفتل ومنه : حبل مجدول ، أي ممرّ{[6315]} ، ومنه قيل للصقر أجدل لشدة بنيته وفتل أعضائه ؛ و «الجدال » فعال ، مصدر فاعل ، وهو يقع من اثنين ، ومصدر فاعل يجيء على فعال وفيعال ومفاعلة ، فتركت الياء من فيعال ورفضت .

ومن الجدال ما هو محمود ، وذلك إذا كان مع كافر حربي في منعته ويطمع في الجدال أن يهتدي ، ومن ذلك هذه الآية ، ومنه قوله تعالى : { وجادلهم بالتي هي أحسن }{[6316]} إلى غير ذلك من الأمثلة . ومن الجدال ما هو مكروه ، وهو ما يقع بين المسلمين بعضهم في بعض في طلب علل الشرائع وتصور ما يخبر الشرع به من قدرة الله ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، وكرهه العلماء ، والله المستعان .

وقرأ ابن عباس «قد جادلتنا فأكثرت جَدلنا » بغير ألف ، وبفتح الجيم ، ذكره أبو حاتم{[6317]} .

والمراد بقولهم { ما تعدنا } العذاب والهلاك ، والمفعول الثاني ل { تعدنا } مضمر تقديره بما تعدناه . ولما كان الكلام يقتضي العذاب جاز أن يستعمل فيه الوعد .


[6315]:- يقال: أمرّ الحبل بمعنى فتله وأحكم فتله، فهو ممرّ.
[6316]:- من الآية (125) من سورة (النحل).
[6317]:- كقوله تعالى: {وكان الإنسان أكثر شيء جدلا} من الآية (54) من سورة (الكهف).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قَالُواْ يَٰنُوحُ قَدۡ جَٰدَلۡتَنَا فَأَكۡثَرۡتَ جِدَٰلَنَا فَأۡتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ} (32)

فصلت هذه الجملة فصلاً على طريقة حكاية الأقوال في المحاورات كما تقدم في قصة آدم عليه السلام من سورة البقرة .

والمجادلة : المخاصمة بالقول وإيراد الحجّة عليه ، فتكون في الخير كقوله : { يجادلنا في قوم لوطٍ } [ هود : 74 ] ، ويكون في الشر كقوله : { ولا جدال في الحجّ } [ البقرة : 197 ] . وإنما أرادوا أنه جادلهم فيما هو شر فعبّر عن مرادهم بلفظ الجدال الموجّه ، وقد مضى عند قوله تعالى : { ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم } في سورة [ النساء : 107 ] .

وهذا قول وقع عقب مجادلته المحكية في الآية قبل هذه ، فتعين أن تلك المجادلة كانت آخر مجادلة جادَلها قومه ، وأن ضجرهم وسآمتهم من تكرار مجادلته حصل ساعتئذٍ فقالوا قولهم هذا ، فكانت كلها مجادلات مضت . وكانت المجادلة الأخيرة هي الّتي استفزّت امتعاضهم من قوارع جدله حتى سئموا من تزييف معارضتهم وآرائهم شأن المبطل إذا دمغته الحجة ، ولذلك أرادوا طي بساط الجدال ، وأرادوا إفحامه بأن طلبوا تعجيل ما توعدهم من عذاب ينزل بهم كقوله آنفاً : { إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم } [ هود : 26 ] .

وقولهم : { فأكثرت جِدَالَنا } خبرٌ مستعمل في التذمر والتضجير والتأييس من الاقتناع ، أجابهم بالمبادرة لِبيان العذاب لأن ذلك أدخل في الموعظة فبادر به ثم عاد إلى بيان مجادلته .

والإتيان بالشيء : إحضاره . وأرادوا به تعجيله وعدم إنظاره .

و { ما تَعِدنا } مصداقه { عذاب يوم أليم } [ هود : 26 ] .