هذا قسم من اللّه تعالى بالقرآن الحكيم ، الذي وصفه الحكمة ، وهي وضع كل شيء موضعه ، وضع الأمر والنهي في الموضع{[748]} اللائق بهما ، ووضع الجزاء بالخير والشر في محلهما اللائق بهما ، فأحكامه الشرعية والجزائية كلها مشتملة على غاية الحكمة .
ومن حكمة هذا القرآن ، أنه يجمع بين ذكر الحكم وحكمته ، فينبه العقول على المناسبات والأوصاف المقتضية لترتيب الحكم عليها .
ويصف القرآن - وهو يقسم به - بأنه ( القرآن الحكيم ) . والحكمة صفة العاقل . والتعبير على هذا النحو يخلع على القرآن صفة الحياة والقصد والإرادة . وهي من مقتضيات أن يكون حكيماً . ومع أن هذا مجاز إلا أنه يصور حقيقة ويقربها . فإن لهذا القرآن لروحاً ! وإن له لصفات الحي الذي يعاطفك وتعاطفه حين تصفي له قلبك وتصغي له روحك ! وإنك لتطلع منه على دخائل وأسرار كلما فتحت له قلبك وخلصت له بروحك ! وإنك لتشتاق منه إلى ملامح وسمات ، كما تشتاق إلى ملامح الصديق وسماته ، حين تصاحبه فترة وتأنس به وتستروح ظلاله ! ولقد كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يحب أن يسمع تلاوة القرآن من غيره ؛ ويقف على الأبواب ينصت إذا سمع من داخلها من يرتل هذا القرآن . كما يقف الحبيب وينصت لسيرة الحبيب !
والقرآن حكيم . يخاطب كل أحد بما يدخل في طوقه . ويضرب على الوتر الحساس في قلبه . ويخاطبه بقدر . ويخاطبه بالحكمة التي تصلحه وتوجهه .
والقرآن حكيم . يربي بحكمة ، وفق منهج عقلي ونفسي مستقيم . منهج يطلق طاقات البشر كلها مع توجيهها الوجه الصالح القويم . ويقرر للحياة نظاماً كذلك يسمح بكل نشاط بشري في حدود ذلك المنهج الحكيم .
وقوله : والقُرآنِ الحَكِيمِ يقول : والقرآن المحكم بما فيه من أحكامه ، وبيّنات حججه إنّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ يقول تعالى ذكره مقسما بوحيه وتنزيله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إنك يا محمد لمن المرسلين بوحي الله إلى عباده ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة والقُرآنِ الحَكِيمِ إنّكَ لَمِنَ المُرْسَلينَ قسم كما تسمعون إنّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ على صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ .
أمال حمزة والكسائي الياء في { يس } غير مفرطين والجمهور يفتحونها ونافع وسط في ذلك ، وقوله تعالى : { يس } يدخل فيه من الأقوال ما تقدم في الحروف المقطعة في أوائل السور ، ويختص هذا بأقوال ، منها أن سعيد بن جبير قال : إنه اسم من أسماء محمد صلى الله عليه وسلم دليله { إنك لمن المرسلين } وقال السيد الحميري{[9763]} :
يا نفس لا تمحضي بالنصح جاهدة . . . على المودة إلا آل ياسينا{[9764]}
وقال ابن عباس : معناه يا إنسان بلسان الحبشة ، وقال أيضاً ابن عباس في كتاب الثعلبي : هو بلغة طيِّىء وذلك أنهم يقولون يا إيسان بمعنى إنسان ويجمعونه على أياسين فهذا منه ، وقالت فرقة : «يا » حرف نداء ، والسين مقامة مقام الإنسان انتزع منه حرف فأقيم مقامه ، ومن قال إنه اسم من أسماء السورة أو من أسماء القرآن فذلك من الأقوال المشتركة في أوائل جميع السور ، وقرأ جمهور القراء { يس } و { نون } [ القلم : 1 ] بسكون النون وإظهارها وإن كانت النون ساكنة تخفى مع الحروف فإنما هذا مع الانفصال ، وإن حق هذه الحروف المقطعة في الأوائل أن تظهر ، وقرأ عاصم وابن عامر بخلاف عنهما { يس والقرآن } بإدغام النون في الواو على عرف الاتصال ، وقرأ ابن أبي إسحاق بخلاف بنصب النون ، وهي قراءة عيسى بن عمرو رواها عن الغنوي ، وقال قتادة : { يس } قسم ، قال أبو حاتم : قياس هذا القول نصب النون كما تقول الله لأفعلن كذا ، وقرأ الكلبي بضمها وقال هي بلغة طيىء «يا إنسان » ، وقرأ أبو السمال وابن أبي إسحاق{[9765]} –بخلاف- بكسرها وهذه الوجوه الثلاثة هي للالتقاء ، وقال أبو الفتح ويحتمل الرفع أن يكون اجتزاء بالسين من «يا إنسان »{[9766]} ، وقال الزجاج النصب كأنه قال اتل يس وهو مذهب سيبويه على أنه اسم للسورة ، و { يس } مشبهة الجملة من الكلام فلذلك عدت آية بخلاف { طس }{[9767]} [ النحل : 14 ] ولم ينصرف { يس } للعجمة والتعريف ، و { الحكيم } المحكم ، فيكون فعيل بمعنى مفعل أي أحكم في مواعظه وأوامره ونواهيه ، ويحتمل أن يكون { الحكيم } بناء فاعل أي ذو الحكمة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
أقسم الله عز وجل بالقرآن الحكيم، يعني المحكم من الباطل...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"والقُرآنِ الحَكِيمِ" يقول: والقرآن المحكم بما فيه من أحكامه، وبيّنات حججه.
"إنّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ "يقول تعالى ذكره مقسما بوحيه وتنزيله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إنك يا محمد لمن المرسلين بوحي الله إلى عباده.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
إنما أقسم الله بالقرآن الحكيم لعظم شأنه وموضع العبرة به والفائدة فيه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
«الحكيم» ذي الحكمة؛ أو لأنه دليل ناطق بالحكمة كالحي؛ أو لأنه كلام حكيم فوصف بصفة المتكلم به.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
... عبر في القسم بقوله: {والقرآن} ووصفه بصفة القلب العارف فقال: {الحكيم} أي الجامع من الدلالة على العلم المزين بالعمل، والإرشاد إلى العمل المحكم بالعلم.
مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير لابن باديس 1359 هـ :
الحكيم: هو الموصوف بالحكمة، وأصل اللفظ من حكم بمعنى أمسك، فالحكمة هي العلم الصحيح الذي يمسك صاحبه عن الجهالات والضلالات والسفالات؛ فيكون ذا إدراك للحقائق قويم وخلق كريم، وعمل مستقيم لا يحكم إلا عن تفكير، ولا يقول إلا عن علم، و لا يفعل إلا على بصيرة؛ فإذا نظر أصاب، وإذا فعل أصاب، وإذا نطق أتى بفصل الخطاب.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
هذا قسم من اللّه تعالى بالقرآن الحكيم، الذي وصفه الحكمة، وهي وضع كل شيء موضعه، وضع الأمر والنهي في الموضع اللائق بهما، ووضع الجزاء بالخير والشر في محلهما اللائق بهما، فأحكامه الشرعية والجزائية كلها مشتملة على غاية الحكمة. ومن حكمة هذا القرآن، أنه يجمع بين ذكر الحكم وحكمته، فينبه العقول على المناسبات والأوصاف المقتضية لترتيب الحكم عليها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يصف القرآن -وهو يقسم به- بأنه (القرآن الحكيم). والحكمة صفة العاقل. والتعبير على هذا النحو يخلع على القرآن صفة الحياة والقصد والإرادة. وهي من مقتضيات أن يكون حكيماً. ومع أن هذا مجاز إلا أنه يصور حقيقة ويقربها. فإن لهذا القرآن لروحاً! وإن له لصفات الحي الذي يعاطفك وتعاطفه حين تصفي له قلبك وتصغي له روحك! وإنك لتطلع منه على دخائل وأسرار كلما فتحت له قلبك وخلصت له بروحك! وإنك لتشتاق منه إلى ملامح وسمات، كما تشتاق إلى ملامح الصديق وسماته، حين تصاحبه فترة وتأنس به وتستروح ظلاله! ولقد كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يحب أن يسمع تلاوة القرآن من غيره؛ ويقف على الأبواب ينصت إذا سمع من داخلها من يرتل هذا القرآن. كما يقف الحبيب وينصت لسيرة الحبيب!
والقرآن حكيم. يخاطب كل أحد بما يدخل في طوقه. ويضرب على الوتر الحساس في قلبه. ويخاطبه بقدر. ويخاطبه بالحكمة التي تصلحه وتوجهه.
والقرآن حكيم. يربي بحكمة، وفق منهج عقلي ونفسي مستقيم. منهج يطلق طاقات البشر كلها مع توجيهها الوجه الصالح القويم. ويقرر للحياة نظاماً كذلك يسمح بكل نشاط بشري في حدود ذلك المنهج الحكيم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
المقصود من هذا القَسَم تأكيد الخبر مع ذلك التنويه.
و {القرآن} علَم بالغلبة على الكتاب الموحَى به إلى محمد صلى الله عليه وسلم من وقت مبعثه إلى وفاته للإِعجاز والتشريع، وقد تقدم في قوله تعالى: {وما تتلو منه من قرآن} في سورة يونس (61).
و {الحكيم} يجوز أن يكون بمعنى المُحْكَم بفتح الكاف، أي المجعول ذا إحكام، والإِحكام: الإِتقان بماهية الشيء فيما يراد منه.
ويجوز أن يكون بمعنى صاحب الحِكمة، ووصفه بذلك مجاز عقلي لأنه محتوٍ عليها.
وقوله سبحانه: {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} هذه الواو تسمى واو القسم فما دخلتْ عليه كاليمين، لكن هل المطالب التي يريدها المتكلم من المخاطب تأتي بالقسم أم بالدليل؟ تأتي بالدليل، وقد يأتي اليمين فيه الدلالة على الغرض المراد. فمثلاً يقول لك صاحبك: يا أخي أنت لم تُقدِّرني، لأنني مررتُ بأزمة، فلم تقف بجانبي فتقول له: وحياة الشيك الذي كتبتُه لك يوم كذا، وحياة الهدية التي أخذتها يوم كذا، فتحلف له بالدليل على صِدْقك.
كذلك هنا الحق -تبارك وتعالى- يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: أنت مرسل وأنا أحلف بالقرآن لأنه دليل على أنك رسول صادق.
كلمة قرآن مصدر لقرأ تقول قرأت قراءة وقرآناً، ولا بُدَّ أن الزيادة في المبنى تدل على الزيادة في المعنى، فقلنا قرآناً لنفرق بين قراءة القرآن وقراءة غيره، وهي أيضاً تدل على أنه كتاب مقروء، ومرة أخرى يسميه الكتاب لأنه مكتوب، فالقرآن إذن مقروء من الصدور، مكتوب في السطور.
ومرة أخرى يسميه الذِّكْر، لأنه يُذكِّرنا بعهد الفطرة الأولى التي قال الله فيها:
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172]...
والقرآن وصفه الله بالحكمة، وهي وَضْع الشيء في موضعه الحق ليؤدي مهمته، وكلُّ المعاني الدينية مأخوذة من مُحسَّات قبل الدين، فمثلاً الفَرَس يركبه الإنسان ليُوصلِّه إلى مراداته، فإنْ كان مرادك من ركوب الفرس التنزُّه بين الحقول سار بك سَيْراً بطيئاً كسَيْر الحنطور مثلاً، وإنْ أردتَ به قَطْع المسافة جرى بك كالريح. لذلك جعلوا للحصان لجاماً يُوضَع في حنكه ليكبح سرعته، ويتحكم فيه، هذا اللجام يُسمى الحَكَمَة ومنها الحِكْمَةُ التي تكبح جماح الأهواء، كي لا تشرد وتضع المسائل في موضعها، فالإنسان له هوًى يميل به، وينحرف بحركته عن الجادة، فيأتي القرآن بالحق الواضح الذي يُقوِّم هذا الميل ويُصلحه، والقرآن في الحقيقة حكيم، لأنه محكم من الحكيم الأعلى سبحانه، إذن: فالقرآن كلام من الحكيم، وهو بالنسبة للإنسان كالحَكَمة للفرس.
ولحكمة القرآن اختصّ بأشياء، فتناول القرآن لا يكون كتناول غيره من الكتب، فالكتاب العادي أتناوله في أيِّ وقت وعلى أيِّ حال كنت جُنُباً أو مُحدثاً، أما القرآن فلا يمسُّه إلا طاهر، لأنك مع القرآن تُقبل على مقدس له خصوصية، فإياك أنْ تتناوله وأنت غير طاهر، كما قال الحق سبحانه: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 77-79].
فالحق سبحانه جعل لك هذه الضوابط النفسية لتعرف أنك مُقبِل على كتاب له تميُّز عن سائر الكتب الأخرى...
إذن: نفهم أن حكمة القرآن جاءت من هذه الخصوصية: في حروفه حكمة، وفي كلماته حكمة، وفي نَظْمه، وترتيله، وفي أسلوبه الذي لا يُبَارى ولا يُنقل إلى غيره.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
بعد هذه الحروف المقطّعة وكما هو الحال في أغلب السور التي تبتدئ بالحروف المقطّعة يأتي الحديث عن القرآن المجيد، فيورد هنا قَسَماً بالقرآن، إذ يقول: (والقرآن الحكيم). الملفت للنظر أنّه وصف «القرآن» هنا ب «الحكيم»، في حين أنّ الحكمة عادةً صفة للعاقل، كأنّه سبحانه يريد طرح القرآن على أنّه موجود حي وعاقل ومرشد، يستطيع فتح أبواب الحكمة أمام البشر، ويؤدّي إلى الصراط المستقيم الذي تشير إليه الآيات التالية.
بديهي أنّ الله سبحانه وتعالى ليس بحاجة لأنّ يقسم، ولكن الأقسام القرآنية تتضمّن دائماً فائدتين أساسيتين: الاُولى التأكيد على الموضوع اللاحق للقسم، والثانية بيان عظمة الشيء الذي يقسم به الله تعالى، إذ أنّ القسم لا يكون عادةً بأشياء ليست ذات قيمة.