{ 15 - 29 } { فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِي الْكُنَّسِ * وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } أقسم تعالى { بِالْخُنَّسِ } وهي الكواكب التي تخنس أي : تتأخر عن سير الكواكب المعتاد إلى جهة المشرق ، وهي النجوم السبعة السيارة : " الشمس " ، و " القمر " ، و " الزهرة " ، و " المشترى " ، و " المريخ " ، و " زحل " ، و " عطارد " ، فهذه السبعة لها سيران : سير إلى جهة المغرب مع باقي الكواكب والأفلاك{[1363]} ، وسير معاكس لهذا من جهة المشرق تختص به هذه السبعة دون غيرها .
فأقسم الله بها في حال خنوسها أي : تأخرها ، وفي حال جريانها ، وفي حال كنوسها أي : استتارها بالنهار ، ويحتمل أن المراد بها جميع النجوم{[1364]} الكواكب السيارة وغيرها .
ثم يجيء المقطع الثاني في السورة يبدأ بالتلويح بالقسم بمشاهد كونية جميلة ، تختار لها تعبيرات أنيقة . . القسم على طبيعة الوحي ، وصفة الرسول الذي يحمله ، والرسول الذي يتلقاه ، وموقف الناس حياله وفق مشيئة الله :
فلا أقسم بالخنس ، الجوار الكنس ، والليل إذا عسعس ، والصبح إذا تنفس . إنه لقول رسول كريم ، ذي قوة عند ذي العرش مكين ، مطاع ثم أمين . وما صاحبكم بمجنون . ولقد رآه بالأفق المبين ، وما هو على الغيب بضنين . وما هو بقول شيطان رجيم . فأين تذهبون ? إن هو إلا ذكر للعالمين . لمن شاء منكم أن يستقيم . وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين . .
والخنس الجوار الكنس . . هي الكواكب التي تخنس أي ترجع في دورتها الفلكية وتجري وتختفي . والتعبير يخلع عليها حياة رشيقة كحياة الظباء .
وهي تجري وتختبئ في كناسها وترجع من ناحية أخرى . فهناك حياة تنبض من خلال التعبير الرشيق الأنيق عن هذه الكواكب ، وهناك إيحاء شعوري بالجمال في حركتها . في اختفائها وفي ظهورها . في تواريها وفي سفورها . في جريها وفي عودتها . يقابله إيحاء بالجمال في شكل اللفظ وجرسه .
قال ابن أبي حاتم وابن جرير ، من طريق الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن رجل من مراد ، عن علي : { فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِي الْكُنَّسِ } قال : هي النجوم تخنس بالنهار ، وتظهر بالليل .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن سماك بن حرب ، سمعت خالد بن عرعرة ، سمعت عليا وسئل عن : { فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِي الْكُنَّسِ } فقال : هي النجوم ، تخنِس بالنهار وتكنس بالليل{[29784]} .
وحدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا وَكِيع ، عن إسرائيل ، عن سِماك ، عن خالد ، عن عليّ قال : هي النجوم .
وهذا إسناد جيد صحيح إلى خالد بن عرعرة ، وهو السهمي الكوفي ، قال أبو حاتم الرازي : روي عن علي ، وروى عنه سماك والقاسم بن عوف الشيباني{[29785]} ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا والله أعلم .
وروى يونس ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي : أنها النجوم . رواه ابن أبي حاتم وكذا رُوي عن ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، والسّدي ، وغيرهم : أنها النجوم .
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا هَوذة بن خليفة ، حدثنا عوف ، عن بكر بن عبد الله في قوله : { فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِي الْكُنَّسِ } قال : هي النجوم الدراريّ ، التي تجرى تستقبل المشرق .
وقال بعض الأئمة : إنما قيل للنجوم : " الخنس " ، أي : في حال طلوعها ، ثم هي جوار في فلكها ، وفي حال غيبوبتها يقال لها : " كُنَّس " من قول العرب : أوى الظبي إلى كنَاسة : إذا تغيب فيه .
وقال الأعمش ، عن إبراهيم قال : قال عبد الله : { فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ } قال : بقر الوحش . وكذا قال الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة ، عن عبد الله : { فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِي الْكُنَّسِ } ما هي يا عمرو ؟ قلت : البقر . قال : وأنا أرى ذلك .
وكذا روى يونس عن أبي إسحاق ، عن أبيه .
وقال أبو داود الطيالسي ، عن عمرو ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { الْجَوَارِي الْكُنَّسِ } قال : البقر [ الوحش ]{[29786]} تكنس إلى الظل . وكذا قال سعيد بن جبير .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : هي الظباء . وكذا قال سعيد أيضا ، ومجاهد ، والضحاك .
وقال أبو الشعثاء جابر بن زيد : هي الظباء والبقر .
وقال ابن جرير : حدثنا يعقوب ، حدثنا هُشَيْم ، أخبرنا مغيرة{[29787]} عن إبراهيم ومجاهد : أنهما تذاكرا هذه الآية : { فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِي الْكُنَّسِ } فقال إبراهيم لمجاهد : قل فيها بما سمعت . قال : فقال مجاهد : كنا نسمع فيها شيئا ، وناس يقولون : إنها النجوم . قال : فقال إبراهيم : قل فيها بما سمعت . قال : فقال مجاهد : كنا نسمع أنها بقر الوحش حين تكنس في حُجْرتها . قال : فقال إبراهيم : إنهم يكذبون على عليّ ، هذا كما رووا عن علي أنه ضمن الأسفل الأعلى ، والأعلى الأسفل .
وتوقف ابن جرير في قوله : { الْخُنَّسِ الْجَوَارِي الْكُنَّسِ } هل هو النجوم ، أو الظباء وبقر الوحش ؟ قال : ويحتمل أن يكون الجميع مرادا .
قوله : فَلا أُقْسِمُ بالخُنّسِ الجَوَارِ الكُنّسِ . اختلف أهل التأويل في الخُنّس الجوار الكُنّس . فقال بعضهم : هي النجوم الدراريّ الخمسة ، تخنِس في مجراها فترجع ، وتكنس فتستتر في بيوتها ، كما تكنِس الظباء في المغار ، والنجوم الخمسة : بَهْرام ، وزُحَل ، وعُطارد ، والزّهَرَة ، والمُشْتَري . ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن خالد بن عُرْعُرة ، أن رجلاً قام إلى عليّ رضي الله عنه ، فقال : ما الجَوَارِ الْكُنّسِ ؟ قال : هي الكواكب .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن حعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن سِماك بن حرب ، قال : سمعت خالد بن عُرْعُرة ، قال : سمعت عليا عليه السلام ، وسُئل عن لا أُقْسِمُ بالخُنّسِ الجَوَارِ الْكُنّسِ قال : هي النجوم تخنس بالنهار ، وتكنِس بالليل .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سماك ، عن خالد بن عرعرة ، عن عليّ رضي الله عنه ، قال : النجوم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن رجل من مُراد ، عن عليّ : أنه قال : هل تدرون ما الخنس ؟ هي النجوم تجري بالليل ، وتخنس بالنهار .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني جرير بن حازم ، أنه سمع الحسن يُسْأل ، فقيل : يا أبا سعيد ما الجواري الْكُنّس ؟ قال : النجوم .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا هوذة بن خليفة ، قال : حدثنا عوف ، عن بكر بن عبد الله ، في قوله : فَلا أُقْسِمُ بالخُنّس الجَوَارِ الْكُنّسِ قال : هي النجوم الدراريّ ، التي تجري تستقبل المشرق .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، قال : هي النجوم .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن رجل من مراد ، عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فَلا أُقْسِمُ بالخُنّسِ الجِوَارِ الْكُنّسِ قال : يعني النجوم ، تكنس بالنهار ، وتبدو بالليل .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَلا أُقْسِمُ بالخُنّسِ الجِوَارِ الْكُنّسِ قال : هي النجوم تبدو بالليل وتخنس بالنهار .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن ، في قوله فَلا أُقْسِمُ بالخُنّسِ الجَوَارِ الْكُنّسِ قال : هي النجوم تخنس بالنهار ، والجوار الكنس : سيرهنّ إذا غبن .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : الخُنّسِ الجَوَارِ الكُنّسِ قال : الخنس والجواري الكنس : النجوم الخنس ، إنها تخنِس تتأخر عن مطلعها ، هي تتأخر كلّ عام لها في كلّ عام تأخر عن تعجيل ذلك الطلوع تخنس عنه . والكنس : تكنس بالنهار فلا تُرَى . قال : والجواري تجري بعد ، فهذا الخنس الجواري الكنس .
وقال آخرون : هي بقر الوحش التي تكنس في كناسها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : حدثنا هشيم بن بشير ، عن زكريا بن أبي زائدة ، عن أبي إسحاق السّبيعيّ ، عن أبي ميسرة ، عن عبد الله بن مسعود أنه قال لأبي ميسرة : ما الجواري الكنس ؟ قال : فقال بقر الوحش قال : فقال : وأنا أرى ذلك .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة ، عن عبد الله ، في قوله الجِوَارِي الْكُنّسِ : قال : بقر الوحش .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو ابن شرحبيل ، قال : قال ابن مسعود : يا عمرو ما الجواري الكنس ، أو ما تراها ؟ قال عمرو : أراها البقر ، قال عبد الله : وأنا أراها البقر .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة ، قال : سألت عنها عبد الله ، فذكر نحوه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني جرير بن حازم ، قال : ثني الحجاج بن المنذر ، قال : سألت أبا الشّعثاء جابر بن زيد ، عن الجواري الكنس ، قال : هي البقر إذا كَنَست كوانسها .
قال يونس : قال لي عبد الله بن وهب : هي البقر إذا فرّت من الذئاب ، فذلك الذي أراد بقوله : كنست كوانسها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال جرير ، وحدثني الصلت بن راشد ، عن مجاهد مثل ذلك .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، في قوله : الجَوَارِ الكُنّسِ قال : هي بقر الوحش .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، قال : سُئل مجاهد ونحن عند إبراهيم ، عن قوله الجَوَارِ الْكُنّسِ قال : لا أدري ، فانتهره إبراهيم وقال : لِمَ لا تدري ؟ فقال : إنهم يروُون عن عليّ رضي الله عنه ، وكنا نسمع أنها البقر ، فقال إبراهيم : هي البقر . الجواري الكنس : جِحَرة بقر الوحش التي تأوي إليها ، والخنس الجواري : البقر .
حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم ومجاهد أنهما تذاكرا هذه الاَية فَلا أُقْسِمُ بالخُنّسِ الجَوَارِ الْكُنّسِ فقال إبراهيم لمجاهد : قل فيها ما سمعت ، قال : فقال مجاهد : كنا نسمع فيها شيئا ، وناس يقولون : إنها النجوم قال : فقال إبراهيم : إنهم يكذبون على عليّ رضي الله عنه ، هذا كما رَوَوا عن عليّ رضي الله عنه ، أنه ضمن الأسفل الأعلى ، والأعلى الأسفل .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن المغيرة ، قال : سُئل مجاهد عن الجواري الكنس قال : لا أدري ، يزعمون أنها البقر قال : فقال إبراهيم : ما لا تدري هي البقر قال : يذكرون عن عليّ رضي الله عنه أنها النجوم ، قال : يكذبون على عليّ عليه السلام .
وقال آخرون : هي الظباء . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : فَلا أُقْسِمُ بالخُنّسِ الجَوَارِ الْكُنّسِ يعني : الظباء .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن أشعث بن إسحاق ، عن جعفر ، عن سعيد بن جُبَير فَلا أُقْسِمُ بالخُنّسِ قال : الظباء .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : فَلا أُقْسِمُ بالخُنّسِ الجَوَارِ الْكُنّسِ قال : كنا نقول : «أظنه قال » : الظباء ، حتى زعم سعيد بن جُبير أنه سأل ابن عباس عنها ، فأعاد عليه قراءتها .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : الخُنّسِ الجَوَارِ الْكُنّسِ يعني الظباء .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب : أن يقال : إن الله تعالى ذكره أقسم بأشياء تخنس أحيانا : أي تغيب ، وتجري أحيانا وتكنس أخرى ، وكنوسها : أن تأوي في مكانسها ، والمكانِس عند العرب ، هي المواضع التي تأوي إليها بقر الوحش والظباء ، واحدها مَكْنِس وكِناس ، كما قال الأعشى :
فلَمّا لَحِقْنا الْحَيّ أتْلَعَ أُنّسٌ *** كمَا أتْلَعَتْ تَحْتَ المَكانِسِ رَبْرَبُ
فهذه جمع مَكْنِس ، وكما قال في الكِناس طَرَفة بن العبد :
كأنّ كِناسَيْ ضَالَةٍ يَكْنُفانِهَا *** وأطْرَ قِسِيَ تَحْتَ صُلْبٍ مَؤَيّدِ
وأما الدلالة على أن الكِناس قد يكون للظباء ، فقول أوس بن حَجَر :
ألَمْ تَرَ أنّ اللّهَ أنْزَلَ مُزْنَةً *** وعُفْرُ الظّباءِ فِي الْكِناسِ تَقَمّعُ
فالكِناس في كلام العرب ما وصفت ، وغير مُنكر أن يُستعار ذلك في المواضع التي تكون بها النجوم من السماء ، فإذا كان ذلك كذلك ، ولم يكن في الاَية دلالة على أن المراد بذلك النجوم دون البقر ، ولا البقر دون الظباء ، فالصواب أن يُعَمّ بذلك كلّ ما كانت صفته الخنوس أحيانا ، والجري أخرى ، والكنوس بآنات على ما وصف جلّ ثناؤه من صفتها .
قوله تعالى : { فلا } إما أم تكون «لا » زائدة ، وإما أن يكون رد القول قرش في تكذيبهم بنبوة محمد عليه السلام ، وقولهم إنه ساحر وكاهن ونحو ذلك ، ثم أقسم الله تعالى { بالخنس الجوار الكنس } فقال جمهور المفسرين : إن ذلك الدراري السبعة : الشمس والقمر وزحل وعطارد والمريخ والزهرة والمشتري ، وقال علي بن أبي طالب : المراد الخمسة دون الشمس والقمر . وذلك أن هذه الكواكب تخنس في جريها أي تتقهقر فيما ترى العين ، وهو جوار في السماء ، وأثبت يعقوب الياء في «الجواري » في الوقف وحذفها الباقون وهي تكنس في أبراجها أي تستتر ، وقال علي بن أبي طالب أيضاً والحسن وقتادة : المراد النجوم كلها لأنها تخنس بالنهار حين تختفي ، وقال عبد الله بن مسعود والنخعي وجابر بن زيد وجماعة من المفسرين : المراد { بالخنس الجوار الكنس } : بقر الوحش لأنها تفعل هذه الأفعال في كناسها وهي المواضع التي تأوي إليها من الشجر والغيران ونحوه ، وقال ابن عباس وابن جبير والضحاك : هي الظباء ، وذهب هؤلاء في الخنس إلى أنه من صفة الأنوف لأنها يلزمها الخنس ، وكذلك هي بقر الوحش أيضاً ومن ذلك قول الشاعر [ الطويل ]
سوى نار بض أو غزال صريمة . . . أغن من الخنس المناخر توأم{[11664]}
الفاء لتفريع القسم وجوابه على الكلام السابق للإِشارة إلى ما تقدم من الكلام هو بمنزلة التمهيد لما بعد الفاء فإن الكلام السابق أفاد تحقيق وقوع البعث والجزاء وهم قد أنكروه وكذبوا القرآن الذي أنذرهم به ، فلما قُضي حق الإِنذار به وذكر أشراطه فرع عنه تصديق القرآن الذي أنذرهم به وأنه موحى به من عند الله .
فالتفريع هنا تفريع معنىً وتفريع ذِكرٍ معاً ، وقد جاء تفريع القَسَم لمجرد تفريع ذكر كلام على كلام آخر كقول زهير :
فأقسمتُ بالبيت الذي طاف حوله ***رجال بَنَوْه من قريش وجُرْهُم
عَقِب نسيب معلقته الذي لا يتفرع عن معانيه ما بَعْد القَسَم وإنما قصد به أن ما تقدم من الكلام إنما هو للإِقبال على ما بعد الفاء ، وبذلك يظهر تفوق التفريع الذي في هذه الآية على تفريع بيت زهير .
ومعنى : ( لا أقسم ) : إيقاع القسم ، وقد عُدّت ( لا ) زائدة ، وتقدم عند قوله تعالى : { فلا أقسم بمواقع النجوم } في سورة الواقعة ( 75 ) .
والقسم مراد به تأكيد الخبر وتحقيقه ، وأدمج فيه أوصاف الأشياء المُقْسَم بها للدلالة على تمام قدرة الله تعالى .
و ( الخُنّس ) : جمع خانسة ، وهي التي تخنس ، أي تختفي ، يقال : خنست البقرة والظبية ، إذا اختفت في الكناس .