{ حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ } كالقتل يوم بدر وغيره ، { إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } آيسون من كل خير ، قد حضرهم الشر وأسبابه ، فليحذروا قبل نزول عذاب الله الشديد ، الذي لا يرد ، بخلاف مجرد العذاب ، فإنه ربما أقلع عنهم ، كالعقوبات الدنيوية ، التي يؤدب الله بها عباده . قال تعالى فيها : { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }
ولفظ " حتى " فى قوله - تعالى - { حتى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ . . . } يقصد به ابتداء الكلام ، وإذا الأولى شرطية ، والثانية وهى قوله { إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } رابطة للجواب .
أى : هم مستمرون على جحودهم وعنادهم ، حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد من أبواب عذاب الآخرة المعد لهم إذا هم فيه مبلسون ، أى : ساكتون من شدة الحيرة وآيسون من كل نجاء . يقال : أبلس فلان إبلاساً ، إذا سكت فى حيرة ويأس من الخلاص مما هو فيه من عذاب وبلاء .
وقريب من هذه الآيات فى المعنى قوله - تعالى - : { إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الصم البكم الذين لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } وقوله - عز وجل - : { بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } وقوله - سبحانه - : { وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بالبأسآء والضرآء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ }
و «العذاب الشديد » ، إما يوم بدر بالسيوف كما قال بعضهم وإما توعد بعذاب غير معين وهو الصواب لما ذكرناه من تقدم بدر للمجاعة ، وروي عن مجاهد أن العذاب والباب الشديد هو كله مجاعة قريش .
قال القاضي أبو محمد : وهذا حسن كأن الأخذ كان في صدر الأمر ثم فتح الباب عند تناهيه حيث أبلسوا وجاء أبو سفيان ، والملبس : الذي قد نزل به شر ويئس من زواله ونسخه خير .
( إذا ) من قوله { حتى إذا فتحنا عليهم باباً } مثل ( إذا ) التي تقدمت في قوله { حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب } إلخ .
وفتح الباب تمثيل لمفاجأتهم بالعذاب بعد أن كان محجوزاً عنه حسب قوله تعالى : { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } [ الأنفال : 33 ] . وقريب من هذا التمثيل قوله تعالى { ولو دُخلت عليهم من أقطارها } [ الأحزاب : 14 ] .
شبهت هيئة إصابتهم بالعذاب بعد أن كانوا في سلامة وعافية بهيئة ناس في بيت مغلق عليهم ففتح عليهم باب البيت من عدو مكروه ، أو تقول : شبهت هيئة تسليط العذاب عليهم بهيئة فتح باب اختزن فيه العذاب فلما فتح الباب انهال العذاب عليهم . وهذا كما مثل بقوله : { وفار التنور } [ هود : 40 ] وقولهم : طفحت الكأس بأعمال فلان ، وقوله تعالى : { فإن للذين ظلموا ذنوباً مثل ذنوب أصحابهم } [ الذاريات : 59 ] وقول علقمة :
ومنه قول الكتّاب : فتح باب كذا على مصراعيه ، تمثيلاً لكثرة ذلك وأفاض عليه سجلاً من الإحسان ، وقول أبي تمام :
من شاعر وقف الكلام ببابه *** واكتن في كنفيْ ذراه المنطق
ووصف { باباً } بكونه { ذا عذاب شديد } دون أن يضاف باب إلى عذاب فيقال : باب عذاب كما قال تعالى : { فصب عليهم ربك سوط عذاب } [ الفجر : 13 ] لأن { ذا عذاب } يفيد من شدة انتساب العذاب إلى الباب ما لا تفيده إضافة باب إلى عذاب ، وليتأتى بذلك وصف ( عذاب ) ب ( شديد ) بخلاف قوله { سوط عذاب } فقد استغني عن وصفه ب ( شديد ) بأنه معمول لفعل ( صب ) الدال على الوفرة .
والمراد بالعذاب الشديد عذاب مستقبل . والأرجح : أن المراد به عذاب السيف يوم بدر . وعن مجاهد : أنه عذاب الجوع .
وقيل : عذاب الآخرة . وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون الباب حقيقة وهو باب من أبواب جهنم كقوله تعالى : { حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها } [ الزمر : 71 ] .
والإبلاس : شدة اليأس من النجاة . يقال : أبلس ، إذا ذل ويئس من التخلص ، وهو ملازم للهمزة ولم يذكروا له فعلاً مجرداً . فالظاهر أنه مشتق من البلاس كسحاب وهو المِسح ، وأن أصل أبلس صار ذا بَلاس . وكان شعار من زهدوا في النعيم . يقال : لبس المسوح ، إذا ترهب .
وهنا انتهت الجمل المعترضة المبتدأة بجملة { ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه } [ المؤمنون : 23 ] وما تفرع عليها من قوله { فذرهم في غمرتهم حتى حين } [ المؤمنون : 54 ] إلى قوله { إذا هم فيه مبلسون } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.