{ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ }
يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم : { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } تحصل بها الهداية لمن استهدى ، وإقامة الحجة على من عاند ، وهي في الوضوح والدلالة على الحق ، قد بلغت مبلغا عظيما ووصلت إلى حالة لا يمتنع من قبولها إلا من فسق عن أمر الله ، وخرج عن طاعة الله ، واستكبر غاية التكبر .
ثم أخذ القرآن في تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم وتسليته عما يفعله معه اليهود فقال تعالى :
{ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ . . . }
أي : لقد أنزلنا إليك يا محمد علامات واضحات دالة على معانيها وعلى كونها من عند الله ، وبينا لك فيها علوم اليهود ، ومكنونات سرائرهم وأخبارهم ، وما حرفه أوائلهم وأواخرهم من كتبهم ، وما بدلوه من أحكامهم قال تعالى : { إِنَّ هذا القرآن يَقُصُّ على بني إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الذي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } وإن هذه الآيات التي أنزلها الله إليك يا محمد ، ما يكفر بها ، ويجحد صدقها إلا المتمردون من الكفرة ، الخارجون على حدود الله المنتهكون لحرماته .
قال الإمام أبو جعفر بن جرير في قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } أي : أنزلنا إليك يا محمد علامات واضحات [ دلالات ]{[2280]} على نبوتك ، وتلك الآيات هي ما حواه كتاب الله من خفايا علوم اليهود ، ومكنونات سرائر أخبارهم ، وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل ، والنبأ عما تضمنته كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارُهم وعلماؤهم ، وما حرفه أوائلهم وأواخرهم وبدلوه من أحكامهم ، التي كانت في التوراة . فأطلع الله في كتابه الذي أنزله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فكان في ذلك من أمره الآيات البينات لمن أنصف نفسه ، ولم يَدْعُه إلى هلاكها الحسد{[2281]} والبغي ، إذ كان في فطرة كل ذي فطرة صحيحة تصديقُ من أتى بمثل{[2282]} ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات التي وَصَفَ ، من غير تعلُّم تعلَّمه من بَشَريٍّ{[2283]} ولا أخذ شيئًا{[2284]} منه عن آدمي . كما قال الضحاك ، عن ابن عباس : { وَلَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } يقول : فأنت تتلوه عليهم وتخبرهم به غدوة وعشية ، وبين ذلك ، وأنت عندهم أمي لا تقرأ{[2285]} كتابًا ، وأنت تخبرهم بما في أيديهم على وجهه . يقول الله : في ذلك لهم عبرة وبيان ، وعليهم حجة لو كانوا يعلمون .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قال ابن صُوريا الفطْيُوني لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، ما جئتنا بشيء نعرفه ، وما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك . فأنزل الله في ذلك من قوله : { وَلَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ }
{ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُون }( 99 )
وقوله تعالى : { ولقد أنزلنا إليك آيات بينات } ، ذكر الطبري أن ابن صوريا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : يا محمد ما جئت بآية بينة ؟ فنزلت هذه الآية( {[1005]} ) . و { الفاسقون } هنا الخارجون عن الإيمان ، فهو فسق الكفر ، والتقدير : { ما يكفر بها } أحد { إلا الفاسقون } ، لأن الإيجاب لا يأتي إلا بعد تمام جملة النفي .
عطف على قوله : { قل من كان عدواً لجبريل } [ البقرة : 97 ] عطف القصة على القصة لذكر كفرهم بالقرآن فهو من أحوالهم . وهاته الجملة جواب لقسم محذوف فعطفها على { قل من كان عدواً } من عطف الإنشاء على الإنشاء وفيه زيادة إبطال لقولهم : { نؤمن بما أنزل علينا } [ البقرة : 91 ] .
وفي الانتقال إلى خطاب النبيء صلى الله عليه وسلم إقبال عليه وتسلية له عما لقي منهم وأن ما أنزل إليه لا يكذب به إلا من لا يؤبه بتكذيبه لكون هذا المنزل دلائل واضحة لا تقصر عن إقناعهم بأحقيتها ولكنهم يظهرون أنفسهم أنهم لم يوقنوا بحقيتها .
واللام موطئة لقسم محذوف فهنا جملة قسم وجوابه حذف القسم لدلالة اللام عليه .
وقوله : { وما يكفر بها إلا الفاسقون } عطف على { لقد أنزلنا } فهو جواب للقسم أيضاً .
والفاسق هو الخارج عن شيء من فسقت التمرة كما تقدم في قوله تعالى : { وما يضل به إلا الفاسقين } [ البقرة : 26 ] وقد شاع إطلاقه على الخارج عن طريق الخير لأن ذلك الوصف في التمرة وصف مذموم وقد شاع في القرآن وصف اليهود به ، والمعنى ما يكفر بهاته الآيات إلا من كان الفسق شأنه ودأبه لأن ذلك بهيئه للكفر بمثل هذه الآيات ، فالمراد بالفاسقين المتجاوزون الحد في الكفر المتمردون فيه . والإخبار وقع بالمضارع الدال على التجدد . والتوصيف وقع باسم الفاعل المعروف باللام .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولقد أنزلنا إليك آيات بينات}: القرآن. {وما يكفر بها}: بالآيات. {إلا الفاسقون}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني جل ثناؤه بقوله: {وَلَقَدْ أنْزَلْنَا إِلَيْكَ آياتٍ} أي أنزلنا إليك يا محمد علامات واضحات دالات على نبوّتك. وتلك الآيات هي ما حواه كتاب الله الذي أنزله إلى محمد صلى الله عليه وسلم من خفايا علوم اليهود ومَكْنُون سرائر أخبارهم وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل، والنبأ عما تضمنته كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم، وما حرّفه أوائلهم وأواخرهم وبدّلوه من أحكامهم، التي كانت في التوراة، فأطلعها الله في كتابه الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. فكان في ذلك من أمره الآيات البينات لمن أنصف نفسه ولم يدعه إلى إهلاكها الحسد والبغي، إذْ كان في فطرة كل ذي فطرة صحيحة تصديق من أتى بمثل الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات التي وصفت من غير تعلّم تعلمه من بشر ولا أَخْذِ شيء منه عن آدمي يعني {وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاّ الفَاسِقُونَ} وما يجحد بها... [و] الفسق... الخروج عن الشيء إلى غيره.
فتأويل الآية: ولقد أنزلنا إليك فيما أوحينا إليك من الكتاب علامات واضحات تبين لعلماء بني إسرائيل وأحبارهم الجاحدين نبوّتك والمكذّبين رسالتك أنك لي رسول إليهم ونبيّ مبعوث، وما يجحد تلك الآيات الدالات على صدقك ونبوّتك التي أنزلتها إليك في كتابي فيكذّب بها منهم، إلا الخارج منهم من دينه، التارك منهم فرائضي عليه في الكتاب الذي تدين بتصديقه. فأما المتمسك منهم بدينه والمتبع منهم حكم كتابه، فإنه بالذي أنزلت إليك من آياتي مصدق. وهم الذين كانوا آمنوا بالله وصدقوا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أحدهما ذكره البلخي وجماعة من أهل العلم: يعني سائر الآيات المعجزات التي أعطاها الله النبي (صلى الله عليه وآله) من الآيات: القرآن، وما فيه، وغير ذلك من الدلالات.
وقال بعضهم: هو الإخبار عما غمض مما في كتب الله السالفة من التوراة، والإنجيل، وغيرهما.
وإنما قال: {وما يكفر بها الا الفاسقون} ولم يقل الكافرون، وإن كان الكفر أعظم من الفسق؛ لأحد أمرين: (الأول) أنه عنى الخارجين عن أديانهم، وإن أظهروا أنهم يتمسكون بها، لأن اليهود قد خرجت بالكفر بالنبي (صلى الله عليه وآله) من شريعة موسى. [و] الفسق هو الخروج عن أمر الله إلى ما يعظم من معصيته.
والثاني: أنه أراد الفاسقين المتمردين في كفرهم، لأن الفسق لا يكون إلا أعظم الكبائر فإن كان في الكفر، فهو أعظم الكفر، وإن كان فيما دون الكفر، فهو أعظم المعاصي. هذا يجيئ على مذهب الحسن، لأنه ذكر أن الفاسقين: عني به جميع من كفر بها.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{إِلاَّ الفاسقون} إلا المتمرّدون من الكفرة. وعن الحسن: إذا استعمل الفسق في نوع من المعاصي وقع على أعظم ذلك النوع من كفر وغيره...
اعلم أن هذا نوع آخر من قبائحهم وفضائحهم...
[و] في تسمية القرآن بالآيات وجوه،
أحدها: أن الآية هي الدالة وإذا كانت أبعاض القرآن دالة بفصاحتها على صدق المدعي كانت آيات،
وثانيها: أن منها ما يدل على الإخبار عن الغيوب فهي دالة على تلك الغيوب،
وثالثها: أنها دالة على دلائل التوحيد والنبوة والشرائع فهي آيات من هذه الجهة،
فإن قيل: الدليل لا يكون إلا بينا فما معنى وصف الآيات بكونها بينة، وليس لأحد أن يقول المراد كون بعضها أبين من بعض، لأن هذا إنما يصح لو أمكن في العلوم أن يكون بعضها أقوى من بعض وذلك محال، وذلك لأن العالم بالشيء إما أن يحصل معه تجويز نقيض ما اعتقده أو لا يحصل، فإن حصل معه ذلك التجويز لم يكن ذلك الاعتقاد علما وإن لم يحصل استحال أن يكون شيء آخر آكد منه.
قلنا: التفاوت لا يقع في نفس العلم بل في طريقه؛ فإن العلوم تنقسم إلى ما يكون طريق تحصيله والدليل الدال عليه أكثر مقدمات فيكون الوصول إليه أصعب، وإلى ما يكون أقل مقدمات فيكون الوصول إليه أقرب، وهذا هو الآية البينة.
[و] الإنزال عبارة عن تحريك الشيء من الأعلى إلى الأسفل وذاك لا يتحقق إلا في الجسمي فهو على هذا الكلام محال لكن جبريل لما نزل من الأعلى إلى الأسفل وأخبر به سمي ذلك إنزالا.
أما قوله: {وما يكفر بها إلا الفاسقون} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: الكفر بها من وجهين.
(أحدهما): جحودها مع العلم بصحتها.
(والثاني): جحودها مع الجهل وترك النظر فيها والإعراض عن دلائلها وليس في الظاهر تخصيص فيدخل الكل فيه.
المسألة الثانية: الفسق في اللغة خروج الإنسان عما حد له قال الله تعالى: {إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه} وتقول العرب للنواة: إذا خرجت من الرطبة عند سقوطها فسقت النواة، وقد يقرب من معناه الفجور لأنه مأخوذ من فجور السد الذي يمنع الماء من أن يصير إلى الموضع الذي يفسد [إذا صار إليه] فشبه تعدي الإنسان ما حد له إلى الفساد بالذي فجر السد حتى صار إلى حيث يفسد.
فإن قيل: أليس أن صاحب الصغيرة تجاوز أمر الله ولا يوصف بالفسق والفجور؟ قلنا: إنه إنما يسمى بهما كل أمر يعظم من الباب الذي ذكرنا، لأن من فتح من النهر نقبا يسيرا لا يوصف بأنه فجر ذلك النهر وكذلك الفسق إنما يقال: إذا عظم التعدي.
[و] إذا ثبت هذا فنقول في قوله: {إلا الفاسقون} وجهان،
(أحدهما): أن كل كافر فاسق ولا ينعكس فكأن ذكر الفاسق يأتي على الكافر وغيره فكان أولى.
(الثاني): أن يكون المراد ما يكفر بها إلا الكافر المتجاوز عن كل حد في كفره والمعنى أن هذه الآيات لما كانت بينة ظاهرة لم يكفر بها إلا الكافر الذي يبلغ في الكفر إلى النهاية القصوى وتجاوز عن كل حد مستحسن في العقل والشرع.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة، لأنه لما ذكر تعالى جملاً من قبائح اليهود وذمهم على ذلك، وكان فيما ذكر من ذلك معاداتهم لجبريل، فناسب ذلك إنكارهم لما نزل به جبريل، فأخبر الله تعالى بأن الرسول عليه السلام أنزل عليه آيات بينات، وأنه لا يجحد نزولها إلا كل فاسق، وذلك لوضوحها...
والآيات البينات، أي القرآن، أو المعجزات المقرونة بالتحدّي، أو الإخبار عما خفي وأخفي في الكتب السالفة، أو الشرائع، أو الفرائض، أو مجموع كل ما تقدّم، أقوال خمسة...
والظاهر مطلق ما يدل عليه آيات بينات غير معين شيء منها، وعبر عن وصولها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإنزال، لأن ذلك كان من علوّ إلى ما دونه...
وناسب قوله: بينات لفظ الكفر، وهو التغطية، لأن البين لا يقع فيه إلباس، فعدم الإيمان به ليس لشبهة لأنه بين، وإنما هو تغطية وستر لما هو واضح بين. وستر الواضح لا يقع إلا من متمرد في فسقه...
وإلا الفاسقون: استثناء مفرغ، إذ تقديره: وما يكفر بها أحد، فنفى أن يكفر بالآيات الواضحات أحد ثم استثنى الفساق من أحد، وأنهم يكفرون بها...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
إذ كان في فطرة كل ذي فطرة صحيحة، تصديق من أتى بمثل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات التي وصفت، من غير تعلم تعلمه من بشر، ولا أخد شيء منه عن آدميّ. وحمل الآيات على ما ذكرناه من آيات القرآن المجيد أولى من حملها على سائر المعجزات المأثورة. لأن الآيات إذا قرنت إلى التنزيل، كانت أخص بالقرآن.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ثم صرح بأن القرآن منزل من عند الله وحده، وأنه في نفسه آيات بينات لا يحتاج إلى آية أخرى تبينه وتشهد له، فإن ما كان بينا في نفسه أولى بالقبول مما يحتاج في بيانه إلى غيره، فقال {ولقد أنزلنا إليك آيات بينات} وقد تقدم أن الوحي من الله للنبي يسمى تنزيلا وإنزالا ونزلا لبيان علو مرتبة الربوبية لا أن هناك نزولا حسيا من مكان مرتفع إلى مكان منخفض...
. وأما كون آيات القرآن بينات فهي أنها بإعجازها البشر وبقرن المسائل الاعتقادية فيها ببراهينها، والأحكام الأدبية والعملية بوجوه منافعها، لا تحتاج إلى دليل آخر يدل على أنها هداية من الله تعالى وأنها جديرة بالإتباع، بل هي دليل على نفسها عند صاحب الفطرة السليمة كالنور يظهر الأشياء وهو ظاهر بنفسه لا يحتاج إلى شيء آخر يظهره...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
لقد كشف القرآن هنا عن علة كفر بني إسرائيل بتلك الآيات البينات التي أنزلها الله.. إنه الفسوق وانحراف الفطرة. فالطبيعة المستقيمة لا يسعها إلا الإيمان بتلك الآيات. وهي تفرض نفسها فرضا على القلب المستقيم. فإذا كفر بها اليهود -أو غيرهم- فليس هذا لأنه لا مقنع فيها ولا حجة، ولكن لأنهم هم فاسدو الفطرة فاسقون...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على قوله: {قل من كان عدواً لجبريل} [البقرة: 97] عطف القصة على القصة لذكر كفرهم بالقرآن فهو من أحوالهم.
وهاته الجملة جواب لقسم محذوف فعطفها على {قل من كان عدواً} من عطف الإنشاء على الإنشاء وفيه زيادة إبطال لقولهم:
{نؤمن بما أنزل علينا} [البقرة: 91].
وفي الانتقال إلى خطاب النبيء صلى الله عليه وسلم إقبال عليه وتسلية له عما لقي منهم وأن ما أنزل إليه لا يكذب به إلا من لا يؤبه بتكذيبه لكون هذا المنزل دلائل واضحة لا تقصر عن إقناعهم بأحقيتها ولكنهم يظهرون أنفسهم أنهم لم يوقنوا بحقيتها.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
ونلاحظ إشارة بيانية في الدلالة على أنه معجزة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي قوله تعالى: {أنزلنا إليك} بالتعدية ب"إلى" دون التعدية ب"على" إذ كان التعبير في غير هذه بالتعدية ب"على"، كقوله: {نزل به الروح الأمين (193) على قلبك لتكون من المنذرين (194)} [الشعراء]، وكانت التعدية للدلالة على أن النزول والرسالة هي متجهة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهذا النبي الأمي المقصود بالرسالة، وكان حقا عليهم أن يتبعوه بمقتضى البشارة التي بشرت به التوراة والإنجيل...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وتعيد الآيات الكريمة إلى الأذهان معنى جوهريا وأساسيا سابقا، ألا وهو أن (فسق الفاسق) هو الذي يحجب قلبه عن الإيمان، وعقله عن الهداية، ويحدث فيه مضاعفات الشر والكفر ما لا سبيل له إلى قلوب المتقين...
إن الآية هي الأمر العجيب.. وهو عجيب لأنه معجز.. والآيات معجزات للرسول تدل على صدق بلاغه عن الله.. وهي كذلك الآيات في القرآن الكريم..
وبينات معناها أنها أمور واضحة لا يختلف عليها ولا تحتاج إلى بيان...
إن الإعجاز في الكون وفي القرآن وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.. كل هذا لا يحتاج إلا لمجرد فكر محايد.. لنعرف أن هذا القرآن هو من عند الله ملئ بالمعجزات لغة وعلما.. وإنه سيظل معجزة لكل جيل له عطاء جديد...
تفسير القرآن الكريم لابن عثيمين 1421 هـ :
{آيات} جمع آية؛ والآية في اللغة: العلامة، لكنها في الحقيقة أدق من مجرد العلامة؛ لأنها تتضمن العلامة، والدليل؛ فكل آية علامة. ولا عكس؛ لكن العلماء. رحمهم الله. قد يفسرون الشيء بما يقاربه، أو يلازمه. وإن كان بينهما فرق، كتفسيرهم "الريب "بالشك في قوله تعالى: {لا ريب فيه} [البقرة:] مع أن "الريب" أخص من مطلق الشك؛ لأنه شك مع قلق؛ وقد أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة "أصول التفسير"..
مسألة: -تنقسم آيات الله تعالى إلى قسمين: كونية، وشرعية؛
فالكونية مخلوقاته، كالشمس، والقمر، والنجوم، والإنسان، وغير ذلك؛ قال الله تعالى: {ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر} [فصلت: 37]، وقال تعالى: {ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين} [الروم: 22]؛
وأما الشرعية فهي ما أنزله الله تعالى على رسله من الشرائع، كقوله تعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته} [الجمعة: 2]، وقوله تعالى: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم..} [سبأ: 43] الآية، وكذلك الآية التي نحن بصدد تفسيرها..
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ديدن اليهود نقض العهود: في هذه الآيات عودة إلى توضيح الصورة القلقة في سلوك المجتمع اليهودي آنذاك، فهم يكفرون بآيات اللّه التي أنزلت على النبيّ (صلى الله عليه وسلم)، مع وضوح دلائل ألوهيتها، ونراهم في الوقت نفسه يدّعون لأنفسهم الاستقامة والثبات على الخطّ، ويتجاهلون مدلول تصرفاتهم المتذبذبة؛ فالذي يكفر بها مع هذا الوضوح، لا يمكن إلاَّ أن يكون فاسقاً خارجاً عن خطّ الإيمان، وفي هذا إيحاء بأنَّ الكفر والفسق في المدلول القرآني لا يمثّلان مصطلحين متقابلين، كما هي الحال في مفهوم الفقهاء، حيث يطلقون الفسق على ما يقابل العدالة، مع التحفظ على مبدأ الإيمان في العقيدة، ويطلقون الكفر على ما يقابل الإيمان، مع عدم ملاحظة جانب العمل في ذلك. ثُمَّ تكمل الآية الصورة في المجال العملي؛ فنواجه نقض العهود التي كانوا يعقدونها مع النبيّ محمَّد (صلى الله عليه وسلم) ومع الآخرين. فهذا هو ديدنهم وطريقتهم في علاقاتهم الاجتماعية، ثُمَّ اعتبر القرآن الكريم أنَّ الفريق الذي يمارس هذا السلوك يمثّل الأكثرية المنطلقة من عدم الإيمان، لأنَّ الإيمان يدعو إلى الحقّ، والحقّ يدعو إلى الوفاء.
وتتضح الصورة في الجانب التطبيقي للفكرة التي ألمحت إليها الآية مع بعض التفاصيل، فقد جاء رسول اللّه ومعه القرآن الذي يصدّق ما لديهم من التوراة، حتى أنهم لا يحتاجون في التعرّف على صحته إلاَّ إلى الرجوع إلى التوراة ليقارنوا بينها وبينه، ولكنَّهم نبذوا التوراة التي هي كتاب اللّه وراء ظهورهم، فلم يعملوا بها، لأنّ ذلك لا ينسجم مع عصبيتهم وأنانياتهم، كأنهم لا يعلمون وجه الحقّ في ذلك، مع أنهم يعلمونه حقّاً كما يعرفون أنفسهم وأولادهم، وذلك هو الضلال الكبير...
{وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ءَايَاتٍ بَيِّنَاتٍ} في هذا القرآن الذي بين يديك، في وضوح الفكرة فيها، وعمق الحجّة التي تؤدي إلى الالتزام بالإيمان {وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ الْفَاسِقُونَ} الذين يتحرّكون في الحياة من خلال ذهنية التمرّد على اللّه في سلوكهم العملي، الأمر الذي يصل بهم إلى الكفر، لأنَّ الإيمان يفرض عليهم الالتزام الدقيق بالمضمون الواسع للتوحيد في حركة الواقع، فيكفرون هرباً من الالتزام من غير عقدة فكريةٍ تفرض عليهم ذلك؛ ومن هنا نفهم أنَّ الكفر قد يكون نتيجة الفسق كعنصر سلبي من عناصر شخصية الكافرين...
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :
الفسق العام ينتج الكفر، إن العبد إذا فسق وواصل الفسق عن أوامر الله ورسوله سيؤدي به ذلك إلى أن ينكر ما حرم الله وما أوجب فيكفر لذلك والعياذ بالله.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
[إن] التفكير في آيات القرآن ينير الطريق لكل طالب حق منصف، وبمطالعة هذه الآيات يمكن فهم صدق دعوة نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعظمة القرآن. لكن هذه الحقيقة الواضحة لا يفهمها الذين انطفأ نور قلوبهم بسبب الذنوب، من هنا نرى الفاسقين الملوثين بالخطايا يعرضون عن الإيمان بالرسالة...