اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَقَدۡ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖۖ وَمَا يَكۡفُرُ بِهَآ إِلَّا ٱلۡفَٰسِقُونَ} (99)

قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن اليهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه ، فلما بعث من العرب كفروا به ، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه ، فقال لهم معاذ بن جبل : يا معشر اليهود اتَّقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ، ونحن أهل الشرك ، وتخبروننا أنه مبعوث ، وتصفون لنا صفته .

فقال ابن صوريا : يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه من الآيات ، وما هو بالذي كنا نذكر لكم ، فأنزل الله تعالى هذه الآيات{[1540]} ، والمرادة بالآيات البينات : آيات القرآن مع سائر الدَّلائل من المُبَاهلة ، ومن تمني الموت وسائر المعجزات نحو : إشباع الخَلْق الكثير من الطعام القليل [ ونبع ]{[1541]} الماء من بين أصابعه وانشقاق القمر .

وقال بعضهم : الأولى تخصيص ذلك بالقرآن ، لأن الآيات إذا قرنت بالتنزيل كانت أخصّ بالقرآن .

فإن قيل : الإنزال عبارة عن تحريك الشَّيء من أعلى إلى أسفل ، وذلك محقّق في الأجسام ، ومحال في الكلام .

فجوابه : أن جبريل عليه الصلاة والسلام لما نزل من الأعلى إلى الأسفل وأخبر به سمي ذلك إنزالاً .

قوله تعالى : { وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ الْفَاسِقُونَ } هذا استثناء مفرّغ ، وقد تقدم أن الفراء يجيز فيه النصب .

والكفر بها من وجهين :

الأول : جحودها مع العلم بصحتها .

والثاني : جحودها مع الجهل ، وترك النظر فيها ، والإعراض عن دلائلها ، وليس في الظَّاهر تخصيص ، فيدخل الكل فيه .

قال ابن الخطيب{[1542]} : والفِسْقُ في اللّغة : خروج الإنسان عما حدّ له قال الله تعالى : { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } [ الكهف : 50 ] .

وتقول العرب للنواة إذا خرجت من الرّطبة عند سقوطها : فسقت النواة ، وقد يقرب من معناه الفُجُور ؛ لأنه مأخوذ من فجور السّد الذي يمنع الماء من أن يسير من الموضع الذي يفسد ، فشبه تعدّي الإنسان ما حدّ له إلى الفساد بالذي فجر السَّد حتى صار إلى حيث يفسد .

فإن قيل : أليس صاحب الصغيرة تجاوز أمر الله ، ولا يوصف بالفسق والفجور ؟

قلنا : إنه إنما يسمى بهما كل أمر يعظم من الباب الذي ذكرنا ؛ لأن من فتح من النهر نقباً يسيراً لا يوصف بأنه فجر ذلك النهر ، وكذلك الفِسْق إنما يقال إذا عظم التعدّي ، إذا ثبت هذا فنقول : في قوله : " إِلاَّ الْفَاسِقُونَ " وجهان :

أحدهما : أن كل كافر فاسق ، ولا ينعكس ، فكأن ذكر الفاسق يأتي على الكافر وغيره ، فكان أولى .

الثاني : أن يكون المراد ما يكفر بها إلاَّ الكافر المتجاوز على كلّ حدّ في كفره ، والمعنى : أن هذه الآيات لما كانت بيّنة ظاهرة لم يكفر بها إلاَّ الكافر الذي يبلغ في الكفر إلى النهاية القصوى ، والأحسن في الجواب أن يقال : إنه تعالى لما قال : { وَمَا يَكْفُرُ بِهَا } أفهم أن مراده بالفاسق هو الكافر لا عموم الفاسق فزال الإشكال .


[1540]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (2/398) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (1/181) وزاد نسبته لابن إسحاق وابن أبي حاتم عن ابن عباس والأثر ذكره ابن هشام في "السيرة النبوية" (2/196).
[1541]:- في ب: ونبوع.
[1542]:- ينظر الفخر الرازي: 3/182.