التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَلَقَدۡ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖۖ وَمَا يَكۡفُرُ بِهَآ إِلَّا ٱلۡفَٰسِقُونَ} (99)

{ وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ { 99 } أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ { 100 } وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ [ 1 ] فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ { 101 } }

تعليق على الحلقة الثامنة

من سلسلة الآيات الواردة في هذه السورة في اليهود

في الآية الأولى تقرير وجّه الخطاب فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله أنزل إليه آيات القرآن بينات واضحات ، وأن الفاسقين المتمردين على الله الذين خبثت نياتهم وأخلاقهم هم فقط الذين يكفرون بها لأن فيها من الهدى والحق والوضوح ما لا يمكن أن يكابر فيه ذو نية حسنة ورغبة صادقة .

وفي الآية الثانية سؤال تنديدي يتضمن التقرير بأنهم كلما عاهدوا عهداً نقضه فريق منهم وتجاهله ، بل إن ذلك دأب أكثرهم ؛ لأن إيمانهم بالله ضعيف واهٍ فلا يبالون بنقض ما عاهدوا عليه باسمه .

وفي الآية الثالثة تقرير إخباري بأنهم لما جاءهم من عند الله رسول مصدق لما معهم تجاهل فريق من أهل الكتاب كتاب الله ونبذوه وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون من حقائقه شيئا .

وجملة { نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ } تحتمل أن يكون الكتاب الذي نبذوه هو القرآن كما تحتمل أن يكون كتاب أهل الكتاب الذي يأمرهم بما جاءهم به الرسول مصدقا لما معهم أو الذي يعرفون منه صفات هذا الرسول وخبر رسالته وهم مأمورون فيه باتباعه . والاحتمال الثاني هو الأوجه ؛ حيث تستحكم به الحجة عليهم وهو ما رجحه غير واحد من المفسرين {[213]} .

وجمهور المفسرين متفقون على أن ضمائر الجمع الغائب في الآيتين الثانية والثالثة عائدة لليهود وبسبيل حكاية موقفهم من رسالة النبي والقرآن .

فالآيات والحالة هذه حلقة ثامنة من السلسلة ، وفحواها الذي يماثل إجمالاً ما وصف به اليهود ومواقفهم في الآيات السابقة يؤيد ذلك .

ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن ابن صوريا الحبر اليهودي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل الله عليك من آية بيّنة فنتبعك بها فأنزل الله الآية [ 99 ] » والرواية ليست واردة في كتب الصحاح . والآية منسجمة في السياق بحيث يسوغ الترجيح بأنها لم تنزل لحدتها في مناسبة قول اليهودي . ويتبادر لنا أنها بمثابة تمهيد لما احتوته الآيات التالية لها ولدمغهم بالفسق ؛ لأنه لا يقف المواقف المذكورة بها إلا الفاسقون . وهذا لا يمنع أن يكون بعض اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ما روته الرواية عن موقف من مواقف حجاجهم ولجاجهم .

ومما أورده المفسرون في صدد العهد الذي نبذه فريق من اليهود المذكور في الآية الثانية أنه العهد الذي أعطوه لله تعالى بأن يعملوا ما في التوراة ومن جملة ذلك اتباع كل نبي يدعوهم إلى الله وشرائعه ومن جملتهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي يجدونه مكتوباً عندهم على ما جاء تقريره في الآية [ 157 ] من سورة الأعراف ، وقد رووا أنهم قالوا للنبي حينما ذكرهم بهذا العهد : إن الله لم يعهد إلينا فيك شيئاً ولم يأخذ لك علينا عهداً .

وهذا وجيه ومتسق مع التقريرات القرآنية فيما هو المتبادر .

ومن المحتمل أن تكون الآية الثانية بسبيل ربط غابر اليهود بحاضرهم ؛ حيث أرادت القول : إن في كل وقت يأخذ الله عهداً على بني إسرائيل أو يعاهدون فيه الله على عهد ينبذه فريق منهم وإن هذا كان شأنهم في الغابر وهو شأنهم اليوم .

وفي حالة صحة هذا الاحتمال كما نرجو تكون كلمة فريق في الآية بالنسبة للحاضرين شاملة لجميع اليهود . ولسنا نرى ورود كلمة ( فريق ) في الآية الثالثة ناقضاً لهذا الاحتمال على ضوء التقريرات القرآنية التي مرت والتي تنسب الكفر والجحود إلى عامة بني إسرائيل الحاضرين . على أن من المحتمل أنه أُريد بذلك استثناء الذين آمنوا وصدقوا منهم على ما ذكرناه وأوردنا الآيات الدالة عليه في نبذة سابقة عقدناها على أسباب تنكر اليهود للدعوة المحمدية . وجملة : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } في الآية الثانية على كل حال تفيد أن النابذين هم الأكثر .


[213]:انظر تفسير الخازن وابن كثير والطبري والطبرسي والبغوي