ثم بين - سبحانه - الأسباب التي أدت بهم إلى الخسران والضلال فقال : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ الله فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } .
أى : ذلك الذى حل بهم من التعاسة والإِضلال بسبب أنهم كرهوا ما أنزله - تعالى - على رسول - صلى الله عليه وسلم - من قرآن إلى الرشد ، فكانت نتيجة هذه الكراهية ، أن أحبط الله أعمالهم الحسنة التى عملوها فى الدنيا كإطعام وصلة الأرحام . . لأن هذه الأعمال لم تصدر عن قلب سليم ، يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر .
( ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم ) . .
وهو تصوير لما يعتمل في قلوبهم ويختلج في نفوسهم من الكراهية لما أنزل الله من قرآن وشريعة ومنهج واتجاه . وهذا هو الذي يدفع بهم إلى الكفر والعناد والخصومة والملاحاة . وهي حالة كثير من النفوس الفاسدة التي تكره بطبعها ذلك النهج السليم القويم ، وتصادمه من داخلها ، بحكم مغايرة طبيعتها لطبيعته . وهي نفوس يلتقي بها الإنسان كثيرا في كل زمان وفي كل مكان ، ويحس منها النفرة والكراهية لهذا الدين وما يتصل به ؛ حتى إنها لتفزع من مجرد ذكره كما لو كانت قد لذعتها العقارب ! وتتجنب أن يجيء ذكره أو الإشارة إليه فيما تسمع حولها من حديث ! ولعلنا نشاهد في هذه الأيام حالة من هذا الطراز لا تخفى على الملاحظة !
وكان جزاء هذه الكراهية لما أنزل الله ، أن أحبط الله أعمالهم . وإحباط الأعمال تعبير تصويري على طريقة القرآن الكريم في التعبير بالتصوير . فالحبوط انتفاخ بطون الماشية عند أكلها نوعا من المرعى سام . ينتهي بها الى الموت والهلاك . وكذلك انتفخت أعمالهم وورمت وانبعجت . . ثم انتهت إلى الهلاك والضياع ! إنها صورة وحركة ، ونهاية مطابقة لحال من كرهوا ما أنزل الله ثم تعاجبوا بالأعمال الضخام . المنتفخة كبطون الأنعام ، حين ترعى من ذلك النبت السام !
وقوله تعالى : { كرهوا ما أنزل الله } يريد القرآن . وقوله : { فأحبط أعمالهم } يقتضي أن أعمالهم في كفرهم التي هي بر مقيدة محفوظة ، ولا خلاف أن الكافر له حفظة يكتبون سيئاته .
واختلف الناس في حسناتهم ، فقالت فرقة : هي ملغاة يثابون عليها بنعم الدنيا فقط . وقالت فرقة : هي محصاة من أجل ثواب الدنيا ، ومن أجل أن[ الكافر ]{[10360]} قد يسلم فينضاف ذلك إلى حسناته في الإسلام ، وهذا أحد التأويلين في قول النبي عليه السلام لحكيم بن حزام : «أسلمت على ما سلف لك من خير »{[10361]} . فقوم قالوا تأويله : أسلمت على أن يعد لك ما سلف من خير ، وهذا هو التأويل الذي أشرنا إليه . وقالت فرقة معناه : أسلمت على إسقاط ما سلف لك من خير ، إذ قد ثوبت عليه بنعم دنياك . وذكر الطبري أن أعمالهم التي أخبر في هذه الآية بحبطها : عبادتهم الأصنام وكفرهم . ومعنى : { أحبط } جعلها من العمل الذي لا يزكو ولا يعتد به ، فهي لذلك كالذي أحبط .
والقول في قوله : { ذلك بأنهم كرهوا } الخ في معناه ، وفي موقعه من الجملة التي قبله وفي نكتة تكريره كما تقدم في قوله : { ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل } [ محمد : 3 ] .
والإشارة إلى التعس وإضلال الأعمال المتقدم ذكرهما . والكراهية : البغض والعداوة .
و { ما أنزل الله } هو القرآن وما فيه من التوحيد والرسالة والبعث ، قال تعالى : { كَبُر على المشركين ما تدعوهم إليه } [ الشورى : 13 ] .
والباء في { بأنهم كرهوا } للسببيّة . وإحباط الأعمال إبطالها : أي جعلها بُطْلاً ، أي ضائعة لا نفع لهم منها ، والمراد بأعمالهم : الأعمال التي يرجون منها النفع في الدنيا لأنهم لم يكونوا يرجون نفعها في الآخرة إذ هم لا يؤمنون بالبعث وإنما كانوا يرجون من الأعمال الصالحة رضي الله ورضى الأصنام ليعيشوا في سعة رزق وسلامة وعافية وتسلَم أولادهم وأنعامهم ، فالأعمال المُحبَطة بعض الأعمال المضللة ، وإحباطها هو عدم تحقق ما رجَوه منها فهو أخص من إضلال أعمالهم كما علمته عند قوله تعالى : { الذين كفروا وصدُّوا عن سبيل الله أضل أعمالهم } [ محمد : 1 ] أول السورة . والمقصود من ذكر هذا الخاص بعد العام التنبيه على أنهم لم ينتفعوا بها لئلا يظن المؤمنون أنها قد تخفف عنهم من العذاب فقد كانوا يتساءلون عن ذلك ، كما في حديث عدي بن حاتم أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أعمال كان يتحنث بها في الجاهلية من عتاقة ونَحوها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم « أسلمتَ على ما سَلف من خير » أي ولو لم يُسلم لما كان له فيها خير .
والمعنى : أنّهم لو آمنوا بما أنزل الله لانتفعوا بأعمالهم الصّالحة في الآخرة وهي المقصود الأهمّ وفي الدنيا على الجملةَ . وقد حصل من ذكر هذا الخاص بعد العام تأكيد الخير المذكور .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.