{ 28-35 } { وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ } إلى آخر القصة
تقدم أن لوطا عليه السلام آمن لإبراهيم ، وصار من المهتدين به ، وقد ذكروا أنه ليس من ذرية إبراهيم ، وإنما هو ابن أخي إبراهيم .
فقوله تعالى : { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ } وإن كان عاما ، فلا يناقض كون لوط نبيا رسولا وهو ليس من ذريته ، لأن الآية جيء بها لسياق المدح والثناء على الخليل ، وقد أخبر أن لوطا اهتدى على يديه ، ومن اهتدى على يديه أكمل ممن اهتدى من ذريته بالنسبة إلى فضيلة الهادي ، واللّه أعلم .
وبمناسبة الحديث عن قصة إبراهيم مع قومه ، جاء بعد ذلك الحديث عن جانب من قصة لوط مع قومه . لوط - عليه السلام - الذى آمن بإبراهيم وهاجر معه إلى بلاد الشام . . .
قال - تعالى - : { وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ . . . . لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } .
وقوله - سبحانه - { وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ } منصوب بالعطف على إبراهيم فى قوله - تعالى - : { وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ . . } أو بفعل مضمر .
أى : واذكر - أيها العاقل لتعبير وتتعظ - نبينا لوطا - عليه السلام - وقت أن قال لقومه على سبيل الزجر والتوبيخ والإِنكار لما هم عليه من فعل قبيح :
{ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الفاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ العالمين } أى : إنكم لتفعلون الفعلة البالغة أقصى دركات القبح والفحش ، والتى ما فعلها أحد قبلكم ، بل أنتم أول من ابتدعها ، وهى إتيان الكذور دون الإِناث .
قال عمر بن دينار : ما نزا ذكر على ذكر حتى كان قوم لوط .
وقال الوليد بن عبد الملك : لولا أن الله - تعالى - قد قص علينا خبر قوم لوط ، ما ظننت أن ذكرا يعلوا ذكرا .
وجاء قوله - عليه السلام - مؤكدا بجملة من المؤكدات ، لتسجيل هذه الفاحشة عليهم بأقوى أسلوب ، وبأنهم لم يسبقهم أحد إلى ارتكابها .
ثم تأتي قصة لوط عقب قصة إبراهيم ، بعد ما هاجر إلى ربه مع إبراهيم ، فنزلا بوادي الأردن ؛ ثم عاش لوط وحده في إحدى القبائل على ضفاف البحر الميت أو بحيرة لوط كما سميت فيما بعد . وكانت تسكن مدينة سدوم . وصار لوط منهم بالصهر والمعيشة .
ثم حدث أن فشا في القوم شذوذ عجيب ، يذكر القرآن أنه يقع لأول مرة في تاريخ البشرية . ذلك هو الميل الجنسي المنحرف إلى الذكور بدلا من الإناث اللاتي خلقهن الله للرجال ، لتتكون من الجنسين وحدات طبيعية منتجة تكفل امتداد الحياة بالنسل وفق الفطرة المطردة في جميع الأحياء . إذ خلقها الله أزواجا : ذكرانا وإناثا . فلم يقع الشذوذ والانحراف إلى الجنس المماثل قبل قوم لوط هؤلاء :
( ولوطا إذ قال لقومه : إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين . أئنكم لتأتون الرجال ، وتقطعون السبيل ، وتأتون في ناديكم المنكر . فما كان جواب قومه إلا أن قالوا : ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين . قال : رب انصرني على القوم المفسدين ) .
ومن خطاب لوط لقومه يظهر أن الفساد قد استشرى فيهم بكل ألوانه . فهم يأتون الفاحشة الشاذة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين :
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّنَ الْعَالَمِينَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واذكر لوطا إذ قال لقومه : إنكم لتأتون الذكران ما سَبَقَكُمْ بِها يعني بالفاحشة التي كانوا يأتونها ، وهي إتيان الذكران مِنْ أحَدٍ مِنَ العالَمِينَ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن خالد بن خداش ويعقوب بن إبراهيم ، قالا : حدثنا إسماعيل بن علية ، عن ابن أبي نجيح ، عن عمرو بن دينار ، في قوله إنّكُم لَتَأْتُونَ الفَاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أحَدٍ مِنَ العالَمِينَ قال : ما نَزَا ذَكَرٌ على ذَكَر حتى كان قوم لوط .
{ ولوطا } عطف على إبراهيم أو على ما عطف عليه . { إذ قال لقومه أئنكم لتأتون الفاحشة } الفعلة البالغة في القبح ، وقرأ الحرميان وابن عامر وحفص بهمزة مكسورة على الخبر والباقون على الاستفهام وأجمعوا على الاستفهام في الثاني . { ما سبقكم بها من أحد من العالمين } استئناف مقرر لفاحشتها من حيث إنها مما اشمأزت منه الطباع وتحاشت عنه النفوس حتى أقدموا عليه لخبث طينتهم .
وقوله تعالى { ولوطاً } نصب بفعل مضمر تقديره واذكر لوطاً{[9242]} ، و { الفاحشة } إتيان الرجال في الأدبار وهي معصية ابتدعها قوم لوط .
الانتقال من رسالة إبراهيم إلى قومه إلى رسالة لوط لمناسبة أنه شابه إبراهيم في أن أنجاه الله من عذاب الرجز . والقول في صدر هذه الآية كالقول في آية { وإبراهيم إذ قال لقومه } [ العنكبوت : 16 ] المتقدم آنفاً . وتقدم نظيرها في سورة النمل وفي سورة الشعراء .
وما بين الآيات من تفاوت هو تفنن في حكاية القصة للغرض الذي ذكرته في المقدمة السابعة ، إلا قوله هنا { إنكم لتأتون الفاحشة } فإنه لم يقع له نظير فيما مضى .
وقوم لوط من الكنعانيين وتقدم ذكرهم في سورة الأعراف .
وتوكيد الجملة ب ( إن ) واللام توكيد لتعلق النسبة بالمفعول لا تأكيد للنسبة ، فالمقصود تحقيق أن الذي يفعلونه فاحشة ، أي عمل قبيح بالغ الغاية في القبح ، لأن الفحش بلوغ الغاية في شيء قبيح لأنهم كانوا غير شاعرين بشناعة عملهم وقبحه .
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم وأبو جعفر { إنكم لتأتون الفاحشة } بهمزة واحدة على الإخبار المستعمل في التوبيخ . وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ويعقوب وخلف بهمزتين : همزة الاستفهام وهمزة ( إنّ ) . وقرأ الجميع { أإنكم لتأتون الرجال } بهمزتين . وفي « الكشاف » : قال أبو عبيد : وجدت الأول أي { إنكم لتأتون الفاحشة } في الإمام بحرف واحد بغير ياء ، أي بغير الياء التي تكتب الهمزة المكسورة على صورتها ورأيت الثاني ( أي { أينكم لتأتون الرجال } ) بحرفي الياء والنون اهـ . ( يعني الياء بعد همزة الاستفهام والنون نون إن ) . ولعله يعني بالإمام مصحف البصرة أو الكوفة فتكون قراءة قرائهما رواية مخالفة لصورة الرسم .