ثم بين - سبحانه - الأسباب التي أدت بهم إلى الخسران والضلال فقال : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ الله فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } .
أى : ذلك الذى حل بهم من التعاسة والإِضلال بسبب أنهم كرهوا ما أنزله - تعالى - على رسول - صلى الله عليه وسلم - من قرآن إلى الرشد ، فكانت نتيجة هذه الكراهية ، أن أحبط الله أعمالهم الحسنة التى عملوها فى الدنيا كإطعام وصلة الأرحام . . لأن هذه الأعمال لم تصدر عن قلب سليم ، يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر .
وقوله : ذلكَ بأنّهُم كَرِهُوا ما أنْزَلَ اللّهُ يقول تعالى ذكره : هذا الذي فعلنا بهم من الإتعاس وإضلال الأعمال من أجل أنهم كرهوا كتابنا الذي أنزلناه إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسخطوه ، فكذّبوا به ، وقالوا : هو سحر مبين .
وقوله : فَأَحْبَطَ أعمالَهُمْ يقول : فأبطل أعمالهم التي عملوها في الدنيا ، وذلك عبادتهم الاَلهة ، لم ينفعهم الله بها في الدنيا ولا في الاَخرة ، بل أوبقهم بها ، فأصلاهم سعيرا ، وهذا حكم الله جلّ جلاله في جميع من كفر به من أجناس الأمم ، كما قال قتادة .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة في قوله : فَتَعْسا لَهُمْ قال : هي عامة للكفار .
والقول في قوله : { ذلك بأنهم كرهوا } الخ في معناه ، وفي موقعه من الجملة التي قبله وفي نكتة تكريره كما تقدم في قوله : { ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل } [ محمد : 3 ] .
والإشارة إلى التعس وإضلال الأعمال المتقدم ذكرهما . والكراهية : البغض والعداوة .
و { ما أنزل الله } هو القرآن وما فيه من التوحيد والرسالة والبعث ، قال تعالى : { كَبُر على المشركين ما تدعوهم إليه } [ الشورى : 13 ] .
والباء في { بأنهم كرهوا } للسببيّة . وإحباط الأعمال إبطالها : أي جعلها بُطْلاً ، أي ضائعة لا نفع لهم منها ، والمراد بأعمالهم : الأعمال التي يرجون منها النفع في الدنيا لأنهم لم يكونوا يرجون نفعها في الآخرة إذ هم لا يؤمنون بالبعث وإنما كانوا يرجون من الأعمال الصالحة رضي الله ورضى الأصنام ليعيشوا في سعة رزق وسلامة وعافية وتسلَم أولادهم وأنعامهم ، فالأعمال المُحبَطة بعض الأعمال المضللة ، وإحباطها هو عدم تحقق ما رجَوه منها فهو أخص من إضلال أعمالهم كما علمته عند قوله تعالى : { الذين كفروا وصدُّوا عن سبيل الله أضل أعمالهم } [ محمد : 1 ] أول السورة . والمقصود من ذكر هذا الخاص بعد العام التنبيه على أنهم لم ينتفعوا بها لئلا يظن المؤمنون أنها قد تخفف عنهم من العذاب فقد كانوا يتساءلون عن ذلك ، كما في حديث عدي بن حاتم أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أعمال كان يتحنث بها في الجاهلية من عتاقة ونَحوها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم « أسلمتَ على ما سَلف من خير » أي ولو لم يُسلم لما كان له فيها خير .
والمعنى : أنّهم لو آمنوا بما أنزل الله لانتفعوا بأعمالهم الصّالحة في الآخرة وهي المقصود الأهمّ وفي الدنيا على الجملةَ . وقد حصل من ذكر هذا الخاص بعد العام تأكيد الخير المذكور .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: هذا الذي فعلنا بهم من الإتعاس وإضلال الأعمال من أجل أنهم كرهوا كتابنا الذي أنزلناه إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسخطوه، فكذّبوا به، وقالوا: هو سحر مبين.
وقوله:"فَأَحْبَطَ أعمالَهُمْ" يقول: فأبطل أعمالهم التي عملوها في الدنيا، وذلك عبادتهم الآلهة، لم ينفعهم الله بها في الدنيا ولا في الآخرة، بل أوبقهم بها، فأصلاهم سعيرا، وهذا حكم الله جلّ جلاله في جميع من كفر به من أجناس الأمم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{كَرِهُواْ} القرآن وما أنزل الله فيه من التكاليف والأحكام، لأنهم قد ألفوا الإهمال وإطلاق العنان في الشهوات والملاذ فشق عليهم ذلك وتعاظمهم...
{ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم} وفيه وجوه:
الأول: المراد القرآن، ووجهه هو أن كيفية العمل الصالح لا تعلم بالعقل وإنما تدرك بالشرع والشرع بالقرآن فلما أعرضوا لم يعرفوا العمل الصالح وكيفية الإتيان به، فأتوا بالباطل فأحبط أعمالهم.
الثاني: {كرهوا ما أنزل الله} من بيان التوحيد...
ووجهه أن الشرك محبط للعمل، قال الله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} وكيف لا والعمل من المشرك لا يقع لوجه الله فلا بقاء له في نفسه ولا بقاء له ببقاء من له العمل، لأن ما سوى وجه الله تعالى هالك محبط الثالث: {كرهوا ما أنزل الله} من بيان أمر الآخرة فلم يعملوا لها، والدنيا وما فيها ومآلها باطل، فأحبط الله أعمالهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ذلك} الأمر البعيد من الخير {بأنهم} أي بسب بأنهم {كرهوا} بغضوا وخالفوا وأنكروا {ما أنزل الله} أي الملك الأعظم الذي لا نعمة إلا منه، والذي أنزله من القرآن والسنة هو روح الوجود الذي لا يعاندونه...
{فأحبط} أي أبطل إبطالاً لا صلاح معه {أعمالهم} بسبب أنهم أفسدوها بنياتهم فصارت وإن كانت صورها صالحة ليس لها أرواح، لكونها واقعة- على غير ما أمر به الله الذي لا أمر إلا له يقبل من العمل إلا ما حده ورسمه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم)..
وهو تصوير لما يعتمل في قلوبهم ويختلج في نفوسهم من الكراهية لما أنزل الله من قرآن وشريعة ومنهج واتجاه. وهذا هو الذي يدفع بهم إلى الكفر والعناد والخصومة والملاحاة. وهي حالة كثير من النفوس الفاسدة التي تكره بطبعها ذلك النهج السليم القويم، وتصادمه من داخلها، بحكم مغايرة طبيعتها لطبيعته. وهي نفوس يلتقي بها الإنسان كثيرا في كل زمان وفي كل مكان، ويحس منها النفرة والكراهية لهذا الدين وما يتصل به؛ حتى إنها لتفزع من مجرد ذكره كما لو كانت قد لذعتها العقارب! وتتجنب أن يجيء ذكره أو الإشارة إليه فيما تسمع حولها من حديث! ولعلنا نشاهد في هذه الأيام حالة من هذا الطراز لا تخفى على الملاحظة!
وكان جزاء هذه الكراهية لما أنزل الله، أن أحبط الله أعمالهم. وإحباط الأعمال تعبير تصويري على طريقة القرآن الكريم في التعبير بالتصوير. فالحبوط انتفاخ بطون الماشية عند أكلها نوعا من المرعى سام. ينتهي بها الى الموت والهلاك. وكذلك انتفخت أعمالهم وورمت وانبعجت.. ثم انتهت إلى الهلاك والضياع! إنها صورة وحركة، ونهاية مطابقة لحال من كرهوا ما أنزل الله ثم تعاجبوا بالأعمال الضخام. المنتفخة كبطون الأنعام، حين ترعى من ذلك النبت السام!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والقول في قوله: {ذلك بأنهم كرهوا} الخ في معناه، وفي موقعه من الجملة التي قبله وفي نكتة تكريره كما تقدم في قوله: {ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل} [محمد: 3].
والإشارة إلى التعس وإضلال الأعمال المتقدم ذكرهما. والكراهية: البغض والعداوة.
و {ما أنزل الله} هو القرآن وما فيه من التوحيد والرسالة والبعث، قال تعالى: {كَبُر على المشركين ما تدعوهم إليه} [الشورى: 13].
والباء في {بأنهم كرهوا} للسببيّة. وإحباط الأعمال إبطالها: أي جعلها بُطْلاً، أي ضائعة لا نفع لهم منها، والمراد بأعمالهم: الأعمال التي يرجون منها النفع في الدنيا لأنهم لم يكونوا يرجون نفعها في الآخرة إذ هم لا يؤمنون بالبعث وإنما كانوا يرجون من الأعمال الصالحة رضي الله ورضى الأصنام ليعيشوا في سعة رزق وسلامة وعافية وتسلَم أولادهم وأنعامهم، فالأعمال المُحبَطة بعض الأعمال المضللة، وإحباطها هو عدم تحقق ما رجَوه منها فهو أخص من إضلال أعمالهم كما علمته عند قوله تعالى: {الذين كفروا وصدُّوا عن سبيل الله أضل أعمالهم} [محمد: 1] أول السورة. والمقصود من ذكر هذا الخاص بعد العام التنبيه على أنهم لم ينتفعوا بها لئلا يظن المؤمنون أنها قد تخفف عنهم من العذاب فقد كانوا يتساءلون عن ذلك، كما في حديث عدي بن حاتم أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أعمال كان يتحنث بها في الجاهلية من عتاقة ونَحوها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم « أسلمتَ على ما سَلف من خير» أي ولو لم يُسلم لما كان له فيها خير.
والمعنى: أنّهم لو آمنوا بما أنزل الله لانتفعوا بأعمالهم الصّالحة في الآخرة وهي المقصود الأهمّ وفي الدنيا على الجملةَ. وقد حصل من ذكر هذا الخاص بعد العام تأكيد الخير المذكور.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(ذلك بأنّهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم). لقد أنزل الله سبحانه دين التوحيد قبل كلّ شيء، إلاّ أن هؤلاء نبذوه وراء ظهورهم وأقبلوا نحو الشرك. لقد أمر الله سبحانه بالحق والعدالة، والعفّة والتقوى، غير أنّهم أعرضوا عنها جميعاً، واتجهوا صوب الظلم والفساد، بل إنّهم تشمئز قلوبهم إذا ذكر اسم الله تعالى وحده...