ولكن موسى - عليه السلام - لم يمهلهم حتى يردوا على فرعون بل أكد لهم وحدانية الله - تعالى - وهيمنته على هذا الكون { قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين }
أى : ربنا الذى هو رب السموات والأرض وما بينهما ، هو ربكم أنتم - أيضا - وهو رب آبائكم الأولين ، فكيف تتركون عبادته ، وتعبدون عبدا من عباده ومخلوقا من مخلوقاته هو فرعون ؟
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبّكُمْ وَرَبّ آبَآئِكُمُ الأوّلِينَ * قَالَ إِنّ رَسُولَكُمُ الّذِيَ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * قَالَ لَئِنِ اتّخَذْتَ إِلََهَاً غَيْرِي لأجْعَلَنّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ } .
يعني تعالى ذكره بقوله قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ ألا تَسْتَمِعُونَ قال فرعون لمن حوله من قوله : ألا تستمعون لما يقول موسى ، فأخبر موسى عليه السلام القوم بالجواب عن مسئلة فرعون إياه وقيله له وَما رَبّ العالَمِينَ ليفهم بذلك قوم فرعون مقالته لفرعون ، وجوابه إياه عما سأله ، إذ قال لهم فرعون ألا تَسْتَمِعُونَ إلى قول موسى ، فقال لهم الذي دعوته إليه وإلى عبادته رَبّكُمْ الذي خلقكم وَرَبّ آبائِكُمُ الأوّلينَ فقال فرعون لما قال لهم موسى ذلك ، وأخبرهم عما يدعو إليه فرعون وقومه : إنّ رَسُولَكُمُ الّذِي أُرْسِلَ إلَيْكُمْ لَمَجْنُون يقول : إن رسولكم هذا الذي يزعم أنه أرسل إليكم لمغلوب على عقله ، لأنه يقول قولاً لا نعرفه ولا نفهمه ، وإنما قال ذلك ونسب موسى عدوّ الله إلى الجِنّة ، لأنه كان عنده وعند قومه أنه لا ربّ غيره يعبد ، وأن الذي يدعوه إليه موسى باطل ليست له حقيقة ، فقال موسى عند ذلك محتجا عليهم ، ومعرّفهم ربهم بصفته وأدلته ، إذ كان عند قوم فرعون أن الذي يعرفونه ربا لهم في ذلك الوقت هو فرعون ، وأن الذي يعرفونه لاَبائهم أربابا ملوك أخر ، كانوا قبل فرعون ، قد مضوا فلم يكن عندهم أن موسى أخبرهم بشيء له معنى يفهمونه ولا يعقلونه ، ولذلك قال لهم فرعون : إنه مجنون ، لأن كلامه كان عندهم كلاما لا يعقلون معناه : الذي أدعوكم وفرعون إلى عبادته رب المشرق والمغرب وما بينهما يعني ملك مشرق الشمس ومغربها ، وما بينهما من شيء لا إلى عبادة ملوك مصر الذين كانوا ملوكها قبل فرعون لاَبائكم فمضوا ، ولا إلى عبادة فرعون الذي هو ملكها إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ يقول : إن كان لكم عقول تعقلون بها ما يقال لكم ، وتفهمون بها ما تسمعون مما يعين لكم . فلما أخبرهم عليه السلام بالأمر الذي علموا أنه الحق الواضح ، إذ كان فرعون ومن قبله من ملوك مصر لم يجاوز ملكهم عريش مصر ، وتبين لفرعون ومن حوله من قومه أن الذي يدعوهم موسى إلى عبادته ، هو الملك الذي يملك الملوك . قال فرعون حينئذ استكبارا عن الحقّ ، وتماديا في الغيّ لموسى : لَئنِ اتّخَذْتَ آلها غَيْرِي يقول : لئن أقررت بمعبود سواي لأَجْعَلَنّكَ مِنَ المَسْجُونِينَ يقول : لأسجننك مع من في السجن من أهله .
كلام موسى هذا في معرض الجواب عن تعجب فرعون من سكوت من حوله فلذلك كانت حكايته قوله على الطريقة التي تحكى بها المقاولات . ولما كان في كلام فرعون إعراض عن مخاطبة موسى إذ تجاوزه إلى مخاطبة من حوله ، وجَّه موسى خطابه إلى جميعهم ، وإذ رأى موسى أنهم جميعاً لم يهتدوا إلى الاقتناع بالاستدلال على خلق الله العوالم الذي ابتدأ به هو أوسع دلالةٍ على وجود الله تعالى ووحدانيته إذ في كل شيء مما في السموات والأرض وما بينهما آية تدل على أنه واحد ، فنزل بهم إلى الاستدلال بأنفسهم وبآبائهم إذ أوجدهم الله بعد العدم ثم أعدم آباءهم بعد وجودهم ؛ لأن أحوال أنفسهم وآبائهم أقرب إليهم وأيسر استدلالاً على خالقهم ، فالاستدلال الأول يمتاز بالعموم ، والاستدلال الثاني يمتاز بالقرب من الضرورة ، فإن كثيراً من العقلاء توهموا السموات قديمة واجبة الوجود ، فأما آباؤهم فكثير من السامعين شهدوا انعدام كثير من آبائهم بالموت ، وكفى به دليلاً على انتفاء القِدم الدالِّ على انتفاء الإلهية .
وشمل عموم الآباء بإضافته إلى الضمير وبوصفه بالأوَّلِين بعضَ من يزعمونهم في مرتبة الآلهة مثل الفراعنة القدماء الملقّبين عندهم بأبناء الشَّمس ، والشمس معدودة في الآلهة ويمثلها الصنم « آمون رع » .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 25]
يعني تعالى ذكره بقوله "قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ ألا تَسْتَمِعُونَ "قال فرعون لمن حوله من قومه: ألا تستمعون لما يقول موسى، فأخبر موسى عليه السلام القوم بالجواب عن مسألة فرعون إياه وقيله له "وَما رَبّ العالَمِينَ" ليفهم بذلك قوم فرعون مقالته لفرعون، وجوابه إياه عما سأله، إذ قال لهم فرعون "ألا تَسْتَمِعُونَ" إلى قول موسى، فقال لهم الذي دعوته إليه وإلى عبادته "رَبّكُمْ" الذي خلقكم "وَرَبّ آبائِكُمُ الأوّلينَ"...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قال لما قال فرعون لمن حوله "ألا تستمعون "إلى قول موسى فإنه يقول ربه رب العالمين الذي خلق السموات والأرض وما بينهما! معجبا لهم من قوله، قال موسى "ربكم" الذي خلقكم ويملك تدبيركم وخلق آباءكم الأولين، وملك تدبيرهم، وتدبير جميع الخلق...
فأجاب موسى عليه السلام: بأن {قال ربكم ورب آبائكم الأولين} وكأنه عدل عن التعريف بخالقية السماء والأرض إلى التعريف بكونه تعالى خالقا لنا ولآبائنا، وذلك لأنه لا يمتنع أن يعتقد أحد أن السماوات والأرضين واجبة لذواتها فهي غنية عن الخالق والمؤثر، ولكن لا يمكن أن يعتقد العاقل في نفسه وأبيه وأجداده كونهم واجبين لذواتهم، لم أن المشاهدة دلت على أنهم وجدوا بعد العدم ثم عدموا بعد الوجود، وما كان كذلك استحال أن يكون واجبا لذاته، وما لم يكن واجبا لذاته استحال وجوده إلا لمؤثر. فكان التعريف بهذا الأثر أظهر فلهذا عدل موسى عليه السلام من الكلام الأول إليه...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
فزاد موسى في البيان بقوله:"ربكم ورب آبائكم الأولين" فجاء بدليل يفهمونه عنه؛ لأنهم يعلمون أنه قد كان لهم آباء وأنهم قد فنوا وأنه لا بد لهم من مغير، وأنهم قد كانوا بعد أن لم يكونوا، وأنهم لا بد لهم من مكون...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{قال ربكم ورب آبائكم الأولين}: نبههم على منشئهم ومنشئ آبائهم، وجاء في قوله: الأولين، دلالة على إماتتهم بعد إيجادهم. وانتقل من الاستدلال بالعام إلى ما يخصهم، ليكون أوضح لهم في بيان بطل دعوى فرعون الإلهية، إذ كان آباؤهم الأولون تقدموا فرعون في الوجود، فمحال أن يكون وهو في العدم إلهاً لهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما وبخ اللعين في جوابه، وكان ربما ادعى أن الخافقين وما بينهما من الفضاء غير مخلوق، فتشوف السامع إلى جواب يلزمه، استأنف الشفاء لعيّ هذا السؤال بقوله: {قال} أي موسى، مخصصاً بعد ما عمم بشيء لا تمكن المنازعة فيه لمشاهدة وجود أفراده بعد أن لم تكن: {ربكم} أي الموجد لكم والمربي والمحسن {ورب آبائكم الأولين} وفرعون -الذي تقرون بأنه ربكم- كان إذ ذاك عدماً محضاً، أو ماء صرفاً في ظهر أبيه، فبطل كون أحد منهم رباً لمن بعده كما بطل كون أحد ممن قبلهم من الهالكين ربّاً لهم، لأن الكل عدم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولم يلبث موسى أن هجم عليه وعليهم بصفة أخرى من صفات رب العالمين.
(قال: ربكم ورب آبائكم الأولين)..
وهذه أشد مساسا بفرعون ودعواه وأوضاعه، فهو يجبهه بأن رب العالمين هو ربه، فما هو إلا واحد من عبيده. لا إله كما يدعي بين قومه! وهو رب قومه، فليس فرعون ربهم كما يزعم عليهم! وهو رب آبائهم الأولين. فالوراثة التي تقوم عليها ألوهية فرعون دعوى باطلة. فما كان من قبل إلا الله ربا للعالمين!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
كلام موسى هذا في معرض الجواب عن تعجب فرعون من سكوت من حوله فلذلك كانت حكايته قوله على الطريقة التي تحكى بها المقاولات. ولما كان في كلام فرعون إعراض عن مخاطبة موسى إذ تجاوزه إلى مخاطبة من حوله، وجَّه موسى خطابه إلى جميعهم، وإذ رأى موسى أنهم جميعاً لم يهتدوا إلى الاقتناع بالاستدلال على خلق الله العوالم الذي ابتدأ به هو أوسع دلالةٍ على وجود الله تعالى ووحدانيته إذ في كل شيء مما في السموات والأرض وما بينهما آية تدل على أنه واحد، فنزل بهم إلى الاستدلال بأنفسهم وبآبائهم إذ أوجدهم الله بعد العدم ثم أعدم آباءهم بعد وجودهم؛ لأن أحوال أنفسهم وآبائهم أقرب إليهم وأيسر استدلالاً على خالقهم، فالاستدلال الأول يمتاز بالعموم، والاستدلال الثاني يمتاز بالقرب من الضرورة، فإن كثيراً من العقلاء توهموا السموات قديمة واجبة الوجود، فأما آباؤهم فكثير من السامعين شهدوا انعدام كثير من آبائهم بالموت، وكفى به دليلاً على انتفاء القِدم الدالِّ على انتفاء الإلهية. وشمل عموم الآباء بإضافته إلى الضمير وبوصفه بالأوَّلِين بعضَ من يزعمونهم في مرتبة الآلهة مثل الفراعنة القدماء... والربّ: الخالق والسيد بموجب الخالقية...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إلاّ أن موسى (عليه السلام) عاد مرّةً أُخرى إلى كلامه المنطقي دون أي خوف ولا وهن ولا إيهام، فواصل كلامه و (قال ربّكم وربّ آبائكم الأولين). إن موسى (عليه السلام) بدأ في المرحلة الأُولى ب «الآيات الآفاقية»، وفي المرحلة الثّانية أشار إلى «الآيات الأنفسية»، وأشار إلى أسرار الخلق في وجود الناس أنفسهم وآثار ربوبية الله في أرواح البشر وأجسامهم، ليفكر هؤلاء المغرورون على الأقلّ في أنفسهم ويحاولوا التعرّف عليها وبالتالي معرفة من خلقها...