ثم قال - تعالى - { يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ } أي يختص بالنبوة وما يترتب عليها من الهداية والنعم من يشاء من عباده .
وقوله { وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } أى هو - سبحانه - صاحب الجود العميم والفضل العظيم ، فلا عظمة تساوى عظمة فضل الله - تعالى - على خلقه ، وإنما هو وحده صاحب النعم التى لا تحصى على عباده ، فعليهم أن يشكروه وأن يفردوه بالعبادة والخضوع .
وبذلك تكون الآيات الكريمة قد كشفت عن مسلك من مسالك اليهود الماكرة التى أرادوا من ورائها كيد الإسلام والمسلمين ، وفى هذا الكشف تنبيه للمسلمين إلى ما يبيته لهم هؤلاء الأعداء من شرور وآثام حتى يحذروهم .
{ يَخْتَصّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }
يعني بقوله : { يَخْتَصّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ } يفتعل من قول القائل : خصصت فلانا بكذا ، أخصه به . وأما رحمته في هذا الموضع : فالإسلام والقرآن مع النبوّة . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { يَخْتَصّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ } قال : النبوّة يخصّ بها من يشاء .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { يَخْتَصّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ } قال : يختصّ بالنبوّة من يشاء .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك قراءة ، عن ابن جريج : { يَخْتَصّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ } قال : القرآن والإسلام .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج مثله .
{ وَاللّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ } يقول : ذو فضل يتفضل به على من أحبّ وشاء من خلقه . ثم وصف فضله بالعظم ، فقال : فضله عظيم لأنه غير مشبه في عظم موقعه ممن أفضله عليه أفضال خلقه ، ولا يقاربه في جلالة خطره ولا يدانيه .
قوله تعالى : { يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }
في قوله تعالى : { قل إن الفضل بيد الله } إلى قوله { العظيم } ، تكذيب لليهود في قولهم : نبوءة موسى مؤبدة ، ولن يؤتي الله أحداً مثل ما آتى بني إسرائيل من النبوة والشرف ، وسائر ما في الآية من لفظة { واسع } وغير ذلك قد تقدم نظيره .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{يَخْتَصّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ}: يفتعل، من قول القائل: خصصت فلانا بكذا، أخصه به. وأما رحمته في هذا الموضع: فالإسلام والقرآن مع النبوّة.
{وَاللّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ}: ذو فضل يتفضل به على من أحبّ وشاء من خلقه. ثم وصف فضله بالعظم، فقال: فضله عظيم لأنه غير مشبه في عظم موقعه ممن أفضله عليه أفضال خلقه، ولا يقاربه في جلالة خطره ولا يدانيه.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
الاختصاص: انفراد بعض الأشياء بمعنى دون غيره، كالانفراد بالملك أو الفعل أو العلم أو السبب أو الطلب أو غير ذلك.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{قل إن الفضل بيد الله} إلى قوله {العظيم}، تكذيب لليهود في قولهم: نبوءة موسى مؤبدة، ولن يؤتي الله أحداً مثل ما آتى بني إسرائيل من النبوة والشرف،...
وهذا كالتأكيد لما تقدم، والفرق بين هذه الآية وبين ما قبلها أن الفضل عبارة عن الزيادة، ثم إن الزيادة من جنس المزيد عليه، فبين بقول: {إن الفضل بيد الله} أنه قادر على أن يؤتى بعض عباده مثل ما آتاهم من المناصب العالية ويزيد عليها من جنسها، ثم قال: {يختص برحمته من يشاء} والرحمة المضافة إلى الله سبحانه أمر أعلى من ذلك الفضل، فإن هذه الرحمة ربما بلغت في الشرف وعلو الرتبة إلى أن لا تكون من جنس ما آتاهم، بل تكون أعلى وأجل من أن تقاس إلى ما آتاهم، ويحصل من مجموع الآيتين إنه لا نهاية لمراتب إعزاز الله وإكرامه لعباده، وأن قصر إنعامه وإكرامه على مراتب معينة، وعلى أشخاص معينين جهل بكمال الله في القدرة والحكمة.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
أي: اختصكم -أيها المؤمنون- من الفضل بما لا يُحَد ولا يُوصَف، بما شرف به نبيكم محمدًا صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء وهداكم به لأحمد الشرائع...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان هذا من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى تأكيد انتقل عنه إلى تأكيد الرد عليهم في الأمر الأول بثمرة هذه الجملة ونتيجتها من أنه فاعل بالاختيار تام الاقتدار فقال: {يختص برحمته من يشاء} ثم أكد تعظيم ما لديه دفعاً لتوهم من يظن أن اختصاص البعض لضيق الرحمة عن العموم فقال: {والله} الذي كل شيء دونه فلا ينقص ما عنده {ذو الفضل العظيم *} وكرر الاسم الأعظم هنا تعظيماً لما ذكر من النعم مشيراً بذلك كله إلى التمكن من الإعطاء باختباره وغزارة فضله وإلى القدرة على الإنجاء من حبائل المكر بسعة علمه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ثم بين تعالى أن فضله الواسع ورحمته العامة تابعة لمشيئته لا لوساوس المغرورين من أهل الكتاب الذين حجروهما بجهلهم فقال: {يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم} فهو يجعل من يشاء نبيا ويبعثه رسولا ومن اختصه بذلك فإنما يختصه بمحض فضله العظيم لا بعمل قدمه، ولا لنسب شرفه، وإن جهل ذلك الذين يظنون أنه تعالى يحابي الأفراد أو الشعوب بذلك وبغيره، تعالى الله عن ذلك.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فإذا سمع المسلمون هذا أحسوا مدى النعمة وقيمة المنة في اختيار الله لهم، واختصاصه إياهم بهذا الفضل. واستمسكوا به في إعزاز وحرص، وأخذوه بقوة وعزم، ودافعوا عنه في صرامة ويقين، وتيقظوا لكيد الكائدين وحقد الحاقدين. وهذا ما كان يربيهم به القرآن الكريم والذكر الحكيم. وهو ذاته مادة التربية والتوجيه للأمة المسلمة في كل جيل...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
فقد يقول قائل عن كل من في الوجود في رحمة الله تعالى،ما من أحد من خلق الله تعالى إلا ناله نصيب من رحمة الله، ومنهم من يشكر، ومنهم من يكفر، فلم عبر سبحانه وتعالى بهذا الاختصاص،ولا عام أعم من رحمة الله، ولا عموم إلا في فضل الله تعالى؟. والجواب عن ذلك أن الرحمة التي يختص الله تعالى بعض عباده بها هي الرحمة النوعية،فيختص سبحانه هذا بالعلم، وذلك بالمال،وهذا بالجاه،وذلك بالراحة، وهذا الفريق بالرسالة والهداية، وذلك الفريق بالغلب والسلطان؛ و"كل ميسر لما خلق له". فإذا كان بنو إسرائيل وأشباههم قد نفسوا على بني إسماعيل أن تكون فيهم النبوة الكبرى التي تختتم بها رسالة السماء إلى الأرض،فذلك مما اختص به سبحانه وتعالى بعض عباده بالرحمة،وليس لأحد أن يعترض على فعل الله، فإن فضله على من اختصه عميم؛ وفضله أيضا على من لم يمنحه هذا النوع من الرحمة عظيم؛ ولذا ختم سبحانه الآية الكريمة بقوله: {والله ذو الفضل العظيم} فلا عظمة تساوي عظمة فضل الله تعالى على خلقه، فالاختصاص النوعي لبعض الرحمات لا يعارضه عموم الفضل على خلقه، ولا عظمة هذا الفضل...
إن أحدا ليس له حق على الله؛ فكل لحظة من لحظات الحياة هي فضل من الله، وهو سبحانه يعطي رحمته بالإيمان بمنهجه لمن يشاء، وهو صاحب الفضل المطلق...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وقد نستطيع أن نستفيد من هذا كلّه أنَّ أعداء اللّه قد يكتمون كثيراً من حقائق الإيمان الموجودة في الساحة من أجل أن لا تكون حجّةً عليهم في الدُّنيا والآخرة، أو لا يبرز لخطوط الإسلام فضلٌ من فكر أو عمل؛ ليظهروا أمام النّاس أنَّهم أصحاب الفضل، فلا فضل لغيرهم في أيّ جانب من جوانب الحياة. وفي هذه الحالة لا بُدَّ لنا من أن نحتفظ لأنفسنا بجوّ الثقة الذي نستطيع من خلاله أن ننهزم نفسياً أمام هذا الإنكار للخصائص الذاتية الكامنة فينا، عندما نلتفت إلى اللّه، فنعرف أنَّه صاحب الفضل علينا وعلى الآخرين، فهم لا يستطيعون أن يقدّموا أو يؤخروا شيئاً في الموضوع، ولا يمكنهم إخفاء ما يريد اللّه إظهاره، أو إظهار ما يريد اللّه كتمانه؛ فإنَّه ولي الأمر في كلّ شيء...