جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{ثُمَّ قُتِلَ كَيۡفَ قَدَّرَ} (20)

يقول تعالى ذكره : إن هذا الذي خلقته وحيدا ، فكّر فيما أنزل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن ، وقدّر فيما يقول فيه فَقُتِلَ كَيْفَ قَدّرَ يقول : ثم لعن كيف قدّر النازل فيه ثُمّ نَظَرَ يقول : ثم روّي في ذلك ثُمّ عَبَس يقول : ثم قبض ما بين عينيه وَبَسَرَ يقول : كلح وجهه ومنه قول توبة بن الحُمَيّر :

وَقَدْ رَابَنِي مِنْها صُدُودٌ رأيتُهُوإعْراضُها عَنْ حاجَتِي وبُسُورُها

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، وجاءت الأخبار عن الوحيد أنه فعل . ذكر الرواية بذلك :

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر عن عباد بن منصور ، عن عكرِمة ، أن الوليد بن المُغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقرأ عليه القرآن ، فكأنه رقّ له ، فبلغ ذلك أبا جهل ، فقال : أي عمّ إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً ، قال : لِمَ ؟ قال : يعطونكه فإنك أتيت محمدا تتعرّض لما قِبَله قال : قد علمت قريش أني أكثرها مالاً ، قال : فقل فيه قولاً يعلم قومك أنّك مُنكر لما قال ، وأنك كاره له قال : فما أقول فيه ، فوالله ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني ، ولا أعلم برجزه مني ، ولا بقصيده ، ولا بأشعار الجنّ ، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا ، ووالله إن لقوله لحلاوة ، وإنه ليحطم ما تحته ، وإنه ليعلو ولا يعلى قال : والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه ، قال : فدعني حتى أفكر فيه فلما فكّر قال : هذا سحر يأثره عن غيره ، فنزلت ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدا . قال قتادة : خرج من بطن أمه وحيدا ، فنزلت هذه الاَية حتى بلغ تسعة عشر .

حدثني محمد بن سعيد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : إنّهُ فَكّرَ وَقَدّرَ . . . إلى ثُمّ عَبَسَ وَبَسَرَ قال : دخل الوليد بن المغيرة على أبي بكر بن أبي قُحافة رضي الله عنه يسأله عن القرآن فلما أخبره خرج على قريش فقال : يا عجبا لما يقول ابن أبي كبشة ، فوالله ما هو بشعر ، ولا بسحر ، ولا بهذي من الجنون ، وإن قوله لمن كلام الله فلما سمع بذلك النفر من قريش ائتمروا وقالوا : والله لئن صبأ الوليد لتصبأن قريش ، فلما سمع بذلك أبو جعل قال : أنا والله أكفيكم شأنه فانطلق حتى دخل عليه بيته ، فقال للوليد : ألم تر قومك قد جمعوا لك الصدقة ؟ قال : ألستُ أكثرهم مالاً وولدا ؟ فقال له أبو جهل : يتحدّثون أنك إنما تدخل على ابن أبي قُحافة لتصيب من طعامه قال الوليد : أقد تحدثت به عشيرتي فلا يقصر عن سائر بني قُصيّ لا أقرب أبا بكر ولا عمر ولا ابن أبي كبشة ، وما قوله إلا سحر يؤثر فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم : ذَرْنِي وَمَن خَلَقْتُ وَحِيدا . . . إلى لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّهُ فَكّرَ وقدّر زعموا أنه قال : والله لقد نظرت فيما قال هذا الرجل ، فإذا هو ليس له بشعر ، وإن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنه ليعلو وما يعلى ، وما أشكّ أنه سحر ، فأنزل الله فيه : فَقُتِلَ كَيْفَ قَدّرَ . . . الاَية ثُمّ عَبَسَ وَبَسَرَ : قبض ما بين عينيه وكلح .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : فَكّرَ وَقَدّرَ قال : الوليد بن المغيرة يوم دار الندوة .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ذَرْنِي وَمَن خَلَقْتُ وَحِيدّا يعني الوليد بن المغيرة دعاه نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام ، فقال : حتى أنظر ، ففكر ثُمّ نَظَرَ ثُمّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمّ أدْبَرَ وَاسْتَكْبَر فَقالَ إنْ هَذَا إلاّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ فجعل الله له سقر .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدا وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُودا . . . إلى قوله : إنْ هَذَا إلاّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ قال : هذا الوليد بن المغيرة قال : سأبتار لكم هذا الرجل الليلة ، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فوجده قائما يصلي ويقتريء ، وأتاهم فقالوا : مَهْ ؟ قال : سمعت قولاً حلوا أخضر مثمرا يأخذ بالقلوب ، فقالوا : هو شعر ، فقال : لا والله ما هو بالشعر ، ليس أحد أعلم بالشعر مني ، أليس قد عرَضتْ عليّ الشعراء شعرَهم نابغة وفلان وفلان ؟ قالوا : فهو كاهن ، فقال : لا والله ما هو بكاهن ، قد عرضت عليّ الكهانة ، قالوا : فهذا سحر الأوّلين اكتتبه ، قال : لا أدري إن كان شيئا فعسى هو إذا سحر يؤثر ، فقرأ : فَقُتِلَ كَيْفَ قَدّرَ ثُمّ قُتِلَ كَيْفَ قَدّرَ قال : قتل كيف قدّر حين قال : ليس بشعر ، ثم قتل كيف قدّر حين قال : ليس بكهانة .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ثُمَّ قُتِلَ كَيۡفَ قَدَّرَ} (20)

وقوله تعالى مخبراً عن الوليد { إنه فكر وقدر } الآية ، روى جمهور المفسرين أن الوليد سمع من القرآن ما أعجبه ومدحه ، ثم سمع كذلك مراراً حتى كاد أن يقارب الإسلام ، ودخل إلى أبي بكر الصديق مراراً ، فجاءه أبو جهل فقال : يا وليد ، أشعرت أن قريشاً قد ذمتك بدخولك إلى ابن أبي قحافة وزعمت أنك إنما تقصد أن تأكل طعامه ، فقد أبغضتك لمقاربتك أمر محمد ، وما يخلصك عندهم إلا أن تقول في هذا الكلام قولاً يرضيهم ، ففتنه أبو جهل فافتتن ، وقال : افعل ذلك ثم فكر فيما عسى أن يقول في القرآن ، فقال : أقول شعر ما هو بشعر ، أقول هو كاهن ؟ ما هو بكاهن ، أقول هو { سحر يؤثر } هو قول البشر{[11424]} ، أي لبس منزل من عند الله قال أكثر المفسرين .

فقوله تعالى : { فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر } هو دعاء عليه وتقبيح لحاله أي أنه ممن يستحق ذلك .

وروي عن الزهري وجماعة غيره أو الوليد حاج أبا جهل وجماعة من قريش في أمر القرآن وقال : والله إن له لحلاوة وإن أصله لعذق{[11424]} وإن فرعه لجناة{[2]} وإنه ليحطم ما تحته وإنه ليعلو ولا يعلى ونحو هذا من الكلام فخالفوه فقالوا له : هو شعر ، فقال والله ما هو بشعر ، ولقد عرفنا الشعر هزجه وبسيطه{[3]} ، قالوا : فهو كاهن ، قال والله ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهان وزمزمتهم{[4]} ، قالوا : هو مجنون ، قال : والله ما هو بمجنون ، ولقد رأينا المجنون وخنقه{[5]} ، قالوا : هو سحر ، قال أما هذا فيشبه أنه سحر ويقول أقوال نفسه{[6]} .

قال القاضي أبو محمد : فيحتمل قوله تعالى : { فقتل كيف قدر } أن يكون دعاء عليه على معنى تقبيح حاله ، ويحتمل أن يكون دعاء مقتضاه استحسان منزعه{[7]} الأول ومدحه القرآن ، وفي نفيه الشعر والكهانة والجنون عنه فيجري هذا مجرى قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي جندل بن سهيل : «ويل أمه مسعر حرب »{[8]} ، ومجرى قول عبد الملك بن مروان : قاتل الله كثيراً كأنه رآنا حين قال كذا{[9]} ، وهذا معنى مشهور في كلام العرب .


[2]:- ولم يكن الله ليمتن على رسوله بإيتائه فاتحة الكتاب وهو بمكة، ثم ينزلها بالمدينة، ولا يسعنا القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بضع عشرة سنة يصلي بلا فاتحة الكتاب، هذا ما لا تقبله العقول، قاله الواحدي. وقوله تعالى: (ولقد آتيناك...) هو من الآية رقم (87) من سورة الحجر.
[3]:- أخرجه الإمام مالك في الموطأ المشهور بلفظ: (السبع المثاني القرآن العظيم الذي أعطيته) والترمذي وغيرهما، وخرج ذلك أيضا الإمام البخاري وغيره، عن أبي سعيد ابن المعلى في أول كتاب التفسير، وفي أول كتاب الفضائل بلفظ: (السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته). والسبع الطوال هي: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، فقوله: والسبع الطوال إلخ. رد على من يقول: إنما السبع المثاني.
[4]:- هو أبو هاشم المكي الليثي، وردت الرواية عنه في حروف القرآن، يروي عن أبيه ابن عمر.
[5]:- من الآية رقم (7) من سورة آل عمران.
[6]:- رواه الترمذي وصححه، والإمام أحمد ولفظه: (الحمد لله أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني)، وهذا الحديث يرد على القولين معا.
[7]:- رواه الإمام أحمد، والترمذي وصححه، والنسائي، ونص الترمذي: (والذي نفسي بيده ما أنزلت في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في القرآن مثلها. وإنها السبع من المثاني، والقرآن العظيم الذي أعطيته)، وقد يكون هذا الحديث سندا لما اعتاده الناس من قراءة الفاتحة، وقد أخرج أبو الشيخ في الثواب عن عطاء قال: إذا أردت حاجة فاقرأ فاتحة الكتاب حتى تختمها تقض إن شاء الله، نقله الجلال السيوطي. وللغزالي في الانتصار ما نصه: فاستنزل ما عند ربك وخالقك من خير، واستجلب ما تؤمله من هداية وبر، بقراءة السبع المثاني المأمور بقراءتها في كل صلاة، وتكرارها في كل ركعة، وأخبر الصادق المصدوق أن ليس في التوراة ولا في الإنجيل والفرقان مثلها، قال الشيخ زروق: وفيه تنبيه بل تصريح أن يكثر منها لما فيها من الفوائد والذخائر. انتهى.
[8]:- رواه عبد الله بن حميد في مسنده، والفريابي في تفسيره عن ابن عباس بسند ضعيف.
[9]:- من الناس من يذهب إلى أن هذا من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله، ومنهم الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، قال ابن عبد البر: السكوت في هذه المسألة أفضل من الكلام وأسلم. وحديث : (قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن) رواه الإمام مالك في الموطأ، والبخاري، والترمذي، وروى الترمذي عن أنس وابن عباس قالا: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (إذا زلزلت تعدل نصف القرآن، وقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، وقل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن). ومن الناس من يؤول ذلك باعتبار المعاني التي تشتمل عليها، وقد أشار المؤلف رحمه الله إلى هذين القولين، ويشير بذلك إلى أنه لا تفاضل بين كلام الله لأنه صفة ذاتية، وإنما التفاضل في المعاني باعتبار الأجر والثواب. والله أعلم.
[11424]:ذكره الواحدي بسنده في "أسباب النزول" عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وأخرجه ابن جرير في تفسيره، والحاكم وصححه، والبيهقي في الدلائل.