جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{۞إِنَّ رَبَّكَ يَعۡلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدۡنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلَّيۡلِ وَنِصۡفَهُۥ وَثُلُثَهُۥ وَطَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَۚ وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَۚ عَلِمَ أَن لَّن تُحۡصُوهُ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡۖ فَٱقۡرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلۡقُرۡءَانِۚ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرۡضَىٰ وَءَاخَرُونَ يَضۡرِبُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَبۡتَغُونَ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَءَاخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۖ فَٱقۡرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنۡهُۚ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَقۡرِضُواْ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗاۚ وَمَا تُقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُم مِّنۡ خَيۡرٖ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيۡرٗا وَأَعۡظَمَ أَجۡرٗاۚ وَٱسۡتَغۡفِرُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمُۢ} (20)

وقوله : إنّ رَبّكَ يَعْلَمُ أنكَ تَقُومُ أدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللّيْل يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إن ربك يا محمد يعلم أنك تقوم أقرب من ثلثي الليل مصليا ، ونصفه وثلثه .

اختلف القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة بالخفض ونصفه وثلثه بمعنى : وأدنى من نصفه وثلثه ، إنكم لم تطيقوا العمل بما افترض عليكم من قيام الليل ، فقوموا أدنى من ثلثي الليل ومن نصفه وثلثه . وقرأ ذلك بعض قرّاء مكة وعامة قرّاء الكوفة بالنصب ، بمعنى : إنك تقوم أدنى من ثلثي الليل وتقوم نصفه وثلثه .

والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .

وقوله : وَطائِفَةٌ مِنَ الّذِينَ مَعَكَ يعني من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانوا مؤمنين بالله حين فرض عليهم قيام الليل .

وقوله : وَاللّهُ يُقَدّرُ الليْلَ والنهارَ بالساعات والأوقات .

وقوله : عَلِمَ أنْ لَنْ تُحْصُوهُ يقول : علم ربكم أيها القوم الذين فرض عليهم قيام الليل أن لن تطيقوا قيامه فَتابَ عَلَيْكُمْ إذ عجزتم وضعفتم عنه ، ورجع بكم إلى التخفيف عنكم . وبنحو الذي قلنا في معنى قوله أنْ لَنْ تُحْصُوهُ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا هشيم ، عن عباد بن راشد ، عن الحسن عَلِمَ أنْ لَنْ تُحْصُوهُ أن لن تطيقوه .

حدثني يقعوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرني به عباد بن راشد ، قال : سمعت الحسن يقول في قوله عَلِمَ أنْ لَنْ تُحْصُوهُ قال : لن تطيقوه .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد عَلِمَ أنْ لَنْ تُحْصُوهُ يقول : أن لن تطيقوه .

قال : ثنا مهران ، عن سفيان عَلِمَ أنْ لَنْ تُحْصُوهُ قال : أن لن تطيقوه .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا عطاء بن السائب ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «خَلّتانِ لا يُحْصِيهُما رَجَلٌ مُسْلمٌ إلاّ أدْخَلَتاهُ الجَنةَ ، وهُمَا يَسِيرٌ ، وَمَنْ يَعْمَلْ بِهما قَلِيلٌ ، يُسَبّحُ اللّهَ فِي دُبُرِ كُلّ صَلاةٍ عَشْرا ، ويَحْمَدُهُ عَشْرا ، ويُكَبّرُهُ عَشْرا » قال : فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقدها بيده ، قال : «فَتِلكَ خَمُسُونَ وَمِئَةٌ باللّسانِ ، وألْفٌ وخَمْسُ مِئَةٍ فِي المِيزَانِ وَإذَا أوَى إلى فِراشِهِ سَبّحَ وحَمَد وكَبّر مِئَةِ ، قال : فَتِلكَ مِئَةٌ باللّسانِ ، وألْفٌ فِي المِيزَانِ ، فأيّكُمْ يَعْمَلُ فِي اليَوْمِ الوَاحِدِ ألْفَينِ وخَمْسَ مِئَةِ سَيّئَةٍ ؟ » قالوا : فكيف لا نحصيهما ؟ قال : «يأتى أحَدَكُمُ الشيْطانُ وَهُوَ فِي صَلاتِهِ فَيَقُولُ : اذْكُرْ كَذَا ، اذْكُرْ كَذَا حتى يَنْفَتِلَ ، وَلَعَلَهُ لا يَعْقِلُ ، ويأْتِيهِ وَهُوَ فِي مَضْجَعِهِ فَلا يَزَالُ يُنَوّمَهُ حتى يَنامَ » .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو نعيم ، عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نحوه .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة عَلِمَ أنْ لَنْ تُحْصُوهُ قيام الليل كتب عليكم فاقْرَءُوا ما تَيَسّرَ مِنَ القُرْآنِ .

وقوله : فاقْرَءُوا ما تَيَسّرَ مِنَ القُرْآنِ يقول : فاقرأوا من الليل ما تيسر لكم من القرآن في صلاتكم وهذا تخفيف من الله عزّ وجلّ عن عباده فرضه الذي كان فرض عليهم بقوله : قُمِ اللّيْلَ إلاّ قَلِيلاً نِصْفَهُ أوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء محمد ، قال : قلت للحسن : يا أبا سعيد ما تقول في رجل قد استظهر القرآن كله عن ظهر قلبه ، فلا يقوم به ، إنما يصلي المكتوبة ، قال : يتوسد القرآن ، لعن الله ذاك قال الله للعبد الصالح : وَإنّهُ لَذُو عِلْمِ لمَا عَلّمْناهُ وعُلّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قلت : يا أبا سعيد قال الله : فاقْرَءُوا ما تَيَسّرَ مِنَ القُرْآنِ قال : نعم ، ولو خمسين آية .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن عثمان الهمداني ، عن السديّ ، في قوله : فاقْرَءُوا ما تَيَسّرَ مِنَ القُرْآنِ قال : مئة آية .

قال : ثنا وكيع ، عن ربيع ، عن الحسن ، قال : من قرأ مئة آية في ليلة لم يحاجه القرآن .

قال : ثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن كعب ، قال : من قرأ في ليلة مئة كُتب من العابدين .

وقوله : عَلِمَ أنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وآخَرُونَ يَضْربُونَ فِي الأرْض يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللّهِ يقول تعالى ذكره : علم ربكم أيها المؤمنون أن سيكون منكم أهل مرض قد أضعفه المرض عن قيام الليل وآخَرُونَ يَضْربُونَ فِي الأرْضِ في سفر يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللّهِ في تجارة قد سافروا لطلب المعاش فأعجزهم ، فأضعفهم أيضا عن قيام الليل وآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ يقول : وآخرون أيضا منكم يجاهدون العدوّ فيقاتلونهم في نُصرة دين الله ، فرحمكم الله فخفف عنكم ، ووضع عنكم فرض قيام الليل فاقْرَءُوا ما تَيَسّرَ مِنْهُ يقول : فاقرءوا الاَن إذ خفف ذلك عنكم من الليل في صلاتكم ما تيسّر من القرآن . والهاء في قوله «منه » من ذكر القرآن . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ثم أنبأ بخصال المؤمنين ، فقال : عَلِمَ أنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وآخَرُونَ يَضْربُونَ فِي الأرْض يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللّهِ ، وآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ ، فاقْرَءُوا ما تَيَسّرَ مِنْهُ قال : افترض الله القيام في أوّل هذه السورة ، فقام نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولاً حتى انتفخت أقدامهم ، وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء ، ثم أنزل التخفيف في آخرها فصار قيام الليل تطوّعا بعد فريضة .

وأقِيمُوا الصّلاةَ يقول : وأقيموا المفروضة وهي الصلوات الخمس في اليوم والليل وآتُوا الزّكاةَ يقول : وأعطوا الزكاة المفروضة في أموالكم أهلها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وأقِيمُوا الصّلاةَ وآتُوا الزّكاةَ فهما فريضتان واجبتان ، لا رخصة لأحد فيهما ، فأدّوهما إلى الله تعالى ذكره .

وقوله : وأقْرِضُوا اللّهَ قَرْضا حَسَنا يقول : وانفقوا في سبيل الله من أموالكم .

وكان ابن زيد يقول في ذلك ما :

حدثني به يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وأقْرِضُوا اللّهَ قَرْضَا حَسَنا قال : القرض : النوافل سوى الزكاة .

وقوله : وَما تُقَدّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّهِ هُوَ خَيْرا وأعْظَمَ أجْرا يقول : وما تقدّموا أيها المؤمنون لأنفسكم في دار الدنيا من صدقة أو نفقة تنفقونها في سبيل الله ، أو غير ذلك من نفقة في وجوه الخير ، أو عمل بطاعة الله من صلاة أو صيام أو حجّ ، أو غير ذلك من أعمال الخير في طلب ما عند الله ، تجدوه عند الله يوم القيامة في معادكم ، هو خيرا لكم مما قدّمتم في الدنيا ، وأعظم منه ثوابا : أي ثوابه أعظم من ذلك الذي قدّمتموه لو لم تكونوا قدّمتموه وَاسْتَغْفِرُوا اللّهَ يقول تعالى ذكره : وسلوا الله غفران ذنوبكم يصفح لكم عنها إن اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يقول : إن الله ذو مغفرة لذنوب من تاب من عباده من ذنوبه ، وذو رحمة أن يعاقبهم عليها من بعد توبتهم منها .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞إِنَّ رَبَّكَ يَعۡلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدۡنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلَّيۡلِ وَنِصۡفَهُۥ وَثُلُثَهُۥ وَطَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَۚ وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَۚ عَلِمَ أَن لَّن تُحۡصُوهُ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡۖ فَٱقۡرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلۡقُرۡءَانِۚ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرۡضَىٰ وَءَاخَرُونَ يَضۡرِبُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَبۡتَغُونَ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَءَاخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۖ فَٱقۡرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنۡهُۚ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَقۡرِضُواْ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗاۚ وَمَا تُقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُم مِّنۡ خَيۡرٖ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيۡرٗا وَأَعۡظَمَ أَجۡرٗاۚ وَٱسۡتَغۡفِرُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمُۢ} (20)

وقوله تعالى : { إن ربك يعلم } الآية نزلت تخفيفاً لما كان استمر استعماله من قيام الليل إما على الوجوب أو على الندب حسب الخلاف الذي ذكرناه ، ومعنى الآية : أن الله تعالى يعلم أنك تقوم أنت وغيرك من أمتك قياماً مختلفاً فيه ، مرة يكثر ومرة يقل ، ومرة أدنى من الثلثين ، ومرة أدنى من الثلث ، وذلك لعدم تحصيل البشر لمقادير الزمن مع عدم النوم ، وتقدير الزمان حقيقة إنما هو لله تعالى ، وأما البشر فلا يحصي ذلك فتاب الله عليهم ، أي رجع بهم من الثقل إلى الجنة وأمرهم بقراءة { ما تيسر } ، ونحو هذا يعطي عبارة الفراء ومنذر فإنهما قالا { تحصوه } تحفظوه ، وهذا التأويل هو على قراءة من قرأ «ونصفِه وثلثِ » بالخفض عطفاً على الثلثين ، وهي قراءة أبي عمرو ونافع وابن عامر . وأما من قرأ «ونصفَه وثلثَه » بالنصب عطفاً على { أدنى } وهي قراءة باقي السبعة ، فالمعنى عنده آخر ، وذلك أن الله تعالى قرر أنهم يقدرون الزمان على نحو ما أمر به في قوله { نصفه أو انقص منه قليلاً أو زد عليه } [ المزمل : 3-4 ] ، فلم يبق إلا أن يكون قوله { لن تحصوه } [ بمعنى ]{[11402]} لن تستطيعوا قيامه لكثرته وشدته فخفف الله عنكم فضلاً منه لا لقلة جهلهم بالتقدير وإحصاء الوقت ، ونحو هذا تعطي عبارة الحسن وابن جبير { تحصوه } تطيعوه ، وقرأ جمهور القراء والناس «وثلُثه » بضم اللام ، وقرأ ابن كثير في رواية شبل عنه : «وثلْثه » بسكون اللام . وقوله تعالى : { فاقرأوا ما تيسر من القرآن } إباحة ، هذا قول الجمهور ، وقال ابن جبير وجماعة هو فرض لا بد منه ولو خمسين آية ، وقال الحسن وابن سيرين قيام الليل فرض ، ولو قدر حلب شاة ، إلا أن الحسن قال : من قرأ مائة آية لم يحاجه القرآن ، واستحسن هذا جماعة من العلماء ، قال بعضهم : والركعتان بعد العتمة مع الوتر مدخلتان في حكم امتثال هذا الأمر ، ومن زاد زاده الله ثواباً . و { أن } في قوله تعالى : { علم أن } مخففة من الثقيلة . والتقدير أنه يكون ، فجاءت السين عوضاً من المحذوف ، وكذلك جاءت لا في قول أبي محجن : [ الطويل ]

ولا تدفنني بالفلاة فإنني . . . أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها{[11403]}

والضرب في الأرض : هو السفر للتجارة ، وضرب الأرض هو المشي للتبرز والغائط{[11404]} .

فذكر الله تعالى أعذار بني آدم التي هي حائلة بينهم وبين قيام الليل وهي المرض والسفر في تجارة أو غزو ، فخفف عنه القيام لها . وفي هذه الآية فضيلة الضرب في الأرض بل تجارة وسوق لها مع سفر الجهاد ، وقال عبد الله بن عمر : أحب الموت إليَّ بعد القتل في سبيل الله أن أموت بين شعبتي رحلي{[11405]} أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله ، ثم كرر الأمر . بقراءة ما تيسر منه تأكيداً و { الصلاة } و { الزكاة } هما المفروضتان ، ومن قال إن القيام بالليل غير واجب قال معنى الآية خذوا من هذا الثقل بما تيسر وحافظوا على فرائضكم ، ومن قال إن شيئاً من القيام واجب قال : قرنه الله بالفرائض لأنه فرض . وإقراض الله تعالى : هو إسلاف العمل الصالح عنده . وقرأ جمهور الناس «هو خيراً » على أن يكون هو فصلاً ، وقرأ محمد بن السميفع وأبو السمال «هو خيرُ » بالرفع على أن يكون { هو } ابتداء ، و «خير » خبره والجملة تسد مسد المفعول الثاني ل { تجدوه } . ثم أمر تعالى بالاستغفار وأوجب لنفسه صفة الغفران لا إله غيره ، قال بعض العلماء فالاستغفار بعد الصلاة مستنبط من هذه الآية ومن قوله تعالى : { كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون }{[11406]} [ الذاريات : 17 ] .

قال القاضي أبو محمد : وعهدت أبي رحمه الله يستغفر إثر كل مكتوبة ثلاثاً بعقب السلام ويأثر{[11407]} في ذلك حديثاً ، فكأن هذا الاستغفار من التقصير وتفلت الفكر أثناء الصلاة ، وكان السلف الصالح يصلون إلى طلوع الفجر ثم يجلسون للاستغفار إلى صلاة الصبح .

نجز تفسير سورة «المزمل » بحمد الله وعونه وصلى الله على محمد وآله .


[11402]:ما بين العلامتين زيادة لتوضيح المراد.
[11403]:هذا ثاني بيت في قصيدة معروفة لأبي محجن الثقفي، وقبله يقول: إذا مت فادفني إلى جنب كرمة تروي عظامي بعد موتي عروقها والخطاب موجه إلى ابنه يأمره بذلك، وفي الأبيات مبالغة على حبه للخمر، والفلاة: الأرض المهلكة التي لا علم بها ولا ماء، ومعنى هذا أنه لا كرم فيها، فكأنه يأمره ألا يدفنه إلا بمكان ينبت فيه العنب، وكان أبو محجن هذا فارسا شجاعا في الجاهلية والإسلام إلا أنه كان مولعا بشرب الخمر، وقد حده عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وله في ذلك أخبار طويلة في كتب الأدب، وفيها كلام كثير عن معنى "الخوف" في كلامه، فارجع إليه في خزانة الأدب، وفي "الحاشية الهندية" للدماميني عند تعليقه على قول ابن هشام في كتاب "المغني": "الخوف في هذا البيت يقين". والشاهد هنا أن (أن) مخففة من الثقيلة لوقوعها بعد الخوف بمعنى اليقين، واسمها ضمير الشأن محذوف، وخبرها جملة (أن لا أذوقها).
[11404]:تبرز: خرج إلى البراز، وهو الأرض الواسعة الخالية من الشجر ونحوه، والغائط: المنخفض الواسع من الأرض، يقال: ذهب إلى الغائط وجاء منه، كناية عن التبرز، وفي التنزيل العزيز: (أو جاء أحد منكم من الغائط).
[11405]:الرحل: مسكن الإنسان وما يستصحبه من الأثاث، وفي الحديث الشريف: (إذا ابتلت النعال فالصلاة في الرحال).
[11406]:الآيتان 17 و 18 من سورة الذاريات.
[11407]:يقال: أثر الحديث بمعنى نقله ورواه عن غيره، ومضارع (أثر) هذه هو (يأثره ويأثره) بضم الثاء وبكسرها (راجع لسان العرب).