وأخرهم - سبحانه - عن أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ، لتشويق السامع إلى معرفة أحوالهم ، وبيان ما أعد لهم من ثواب عظيم ، فصله بعد ذلك فى قوله - تعالى - : { أولئك المقربون فِي جَنَّاتِ النعيم . . } أى : والسابقون غيرهم إلى كل فضيلة وطاعة ، أولئك هم المقربون عند الله - تعالى - وأولئك هم الذين مقرهم جنات النعيم .
فالجملة الكريمة مستأنفة استئنافا بيانيا ، لأنها جواب يثيره فى النفوس قوله - تعالى - { والسابقون السابقون } و { أولئك } مبتدأ ، وخبره ما بعده . وما فيه من معنى البعد ، مع قرب العهد بالمشار إليه ، للإشعار يسمو منزلتهم عند الله - تعالى - ولفظ { المقربون } مأخوذ من القربة بمعنى الخطوة ، وهو أبلغ من القريب ، للدلالة صيغته على الاصطفاء والاختباء .
أى : أولئك هم المقربون من ربهم - عز وجل - قرب لا يعرف أحد مقداره .
وجملة { أولئك المقربون في جنات النعيم } ، مستأنفة استئنافاً بيانياً لأنها جواب عما يثيره قوله : { والسابقون السابقون } من تساؤل السامع عن أثر التنويه بهم .
وبذلك كان هذا ابتداء تفصيل لجزاء الأصناف الثلاثة على طريقة النشرِ بعد اللف ، نشراً مشوَّشاً تشويشاً اقتضته مناسبة اتصال المعاني بالنسبة إلى كل صنف أقربَ ذِكراً ، ثم مراعاةُ الأهمّ بالنسبة إلى الصنفين الباقيين فكان بعض الكلام آخذاً بحُجز بعض .
والمقرَّب : أبلغ من القريب لدلالة صيغته على الاصطفاء والاجتباء ، وذلك قُرب مجازي ، أي شُبه بالقرب في ملابسة القريب والاهتمام بشؤونه فإن المطيع بمجاهدته في الطاعة يكون كالمتقرب إلى الله ، أي طالب القرب منه فإذا بلغ مرتبة عالية من ذلك قرّبه الله ، أي عامله معاملة المقرّب المحبوب ، كما جاء : « ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحِبَّه فإذا أحببته كنت سمعَه الذي يسمع به وبصَره الذي يُبصر به ويدَه التي يبطش بها ورجلَه الذي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه » وكل هذه الأوصاف مجازيه تقريباً لمعنى التقريب .
ولم يُذكَر متعلِّق { المقربون } لظهور أنه مقرب من الله ، أي من عنايته وتفضيله ، وكذلك لم يذكر زَمان التقريب ولا مكانُه لقصد تعميم الأزمان والبقاع الاعتبارية في الدنيا والآخرة .
وفي جعل المسند إليه اسم إشارة تنبيه على أنهم أحرياء بما يخبر عنه من أجل الوصف الوارد قبل اسم الإشارة وهو أنهم السابقون على نحو ما تقدم في قوله تعالى : { أولئك على هدى من ربهم } في سورة البقرة ( 5 ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أخبر عنهم، فقال: {أولئك المقربون} عند الله تعالى في الدرجات والفضائل...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"والسّابِقُونَ السّابِقُونَ "وهم الزوج الثالث، وهم الذين سبقوا إلى الإيمان بالله ورسوله، وهم المهاجرون الأوّلون... عن قتادة، قوله: "فَأصْحَابُ المَيْمَنَةِ ما أصحَابُ المَيْمَنَةِ": أي ماذا لهم، وماذا أعدّ لهم "وأصحَابُ المَشأَمَةِ ما أصحَابُ المَشأَمَةِ": أي ماذا لهم وماذا أعدّ لهم "والسّابِقُونَ السّابِقُونَ": أي من كلّ أمة.
[عن] ابن زيد يقول: وجدت الهوى ثلاثة أثلاث، فالمرء يجعل هواه علمه، فيديل هواه على علمه، ويقهر هواه علمه، حتى إن العلم مع الهوى قبيح ذليل، والعلم ذليل، الهوى غالب قاهر، فالذي قد جعل الهوى والعلم في قلبه، فهذا من أزواج النار، وإذا كان ممن يريد الله به خيرا استفاق واستنبه، فإذا هو عون للعلم على الهوى حتى يديل الله العلم على الهوى، فإذا حسُنت حال المؤمن، واستقامت طريقته كان الهوى ذليلاً، وكان العلم غالبا قاهرا، فإذا كان ممن يريد الله به خيرا، ختم عمله بإدالة العلم، فتوفاه حين توفاه، وعلمه هو القاهر، وهو العامل به، وهواه الذليل القبيح، ليس له في ذلك نصيب ولا فعل. والثالث: الذي قبح الله هواه بعلمه، فلا يطمع هواه أن يغلب العلم، ولا أن يكون معه نصف ولا نصيب، فهذا الثالث، وهو خيرهم كلهم، وهو الذي قال الله عزّ وجلّ في سورة الواقعة: وكُنْتُمْ أزْوَاجا ثَلاثَةً قال: فزوجان في الجنة، وزوج في النار، قال: والسابق الذي يكون العلم غالبا للهوى، والاَخر: الذي ختم الله بإدالة العلم على الهوى، فهذان زوجان في الجنة، والاَخر: هواه قاهر لعلمه، فهذا زوج النار.
واختلف أهل العربية في الرافع أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة، فقال بعض نحويي البصرة: خبر قوله: "فأصحَابُ المَيْمَنَةِ ما أصحَابُ المَيْمَنَة وأصحَابُ المَشأَمَةِ ما أصحَابُ المَشأَمَةِ" قال: ويقول زيد: ما زيد، يريد: زيد شديد. وقال غيره: قوله: "ما أصحَابُ المَيْمَنَةِ" لا تكون الجملة خبره، ولكن الثاني عائد على الأوّل، وهو تعجب، فكأنه قال: أصحاب الميمنة ما هم، والقارعة ما هي؟ والحاقة ما هي؟ فكان الثاني عائد على الأوّل، وكان تعجبا، والتعجب بمعنى الخبر، ولو كان استفهاما لم يجز أن يكون خبرا للابتداء، لأن الاستفهام لا يكون خبرا، والخبر لا يكون استفهاما، والتعجب يكون خبرا، فكان خبرا للابتداء. وقوله: زيد وما زيد، لا يكون إلا من كلامين، لأنه لا تدخل الواو في خبر الابتداء، كأنه قال: هذا زيد وما هو: أي ما أشدّه وما أعلمه.
واختلف أهل التأويل في المعنيين بقوله: "والسّابِقُونَ السّابِقُونَ"؛
فقال بعضهم: هم الذين صلوا للقبلتين...
وقال آخرون:... [عن] عثمان بن أبي سودة، قال: "السّابِقُونَ السّابِقُونَ" أوّلهم رواحا إلى المساجد، وأسرعهم خفوقا في سبيل الله...
يقول جلّ ثناؤه: أولئك الذين يقرّبهم الله منه يوم القيامة إذا أدخلهم الجنة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل أن يكون وصف التقريب لهم لمسابقتهم في الخيرات في الدنيا، ويحتمل أنهم مقربون في الآخرة بالكرامات والمنزلة لسبقهم في الخيرات أو في الإجابة: والسبق فعلهم، والتقريب بلطف من الله تعالى وفضل منه، والله أعلم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
معناه الذين قربوا من جزيل ثواب الله وعظيم كرامته بالأمر الأكثر الذي لا يبلغه من دونهم في الفضل. والسابقون إلى الطاعات يقربون إلى رحمة الله في أعلا المراتب وأقربها إلى مجالس كرامته بما يظهر لأهل المعرفة منزلة صاحبه في جلالته ويصل بذلك السرور إلى قلبه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ولم يقل: {المتقربون} بل قال: أولئك المُقَرَّبون، فعَلِمَ الكافة أنهم بتقريب ربهِّم سبقوا لا بِتقَرُّبهم...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{أولئك المقربون} الى كرامة الله.
{أولئك المقربون} يقتضي الحصر فينبغي أن لا يكون غيرهم مقربا، وقد قال في حق الملائكة إنهم مقربون، نقول: {أولئك المقربون} من الأزواج الثلاثة، فإن قيل: {فأصحاب الميمنة} ليسوا من المقربين، نقول: للتقريب درجات {والسابقون} في غاية القرب، ولا حد هناك...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
المقربون تخلصوا من نفوسهم فأعمالهم كلها لله ديناً ودنيا من حق الله وحق الناس، وكلاهما عندهم حق الله، والدنيا عندهم آخرتهم، لأنهم يراقبون ما يبدو لهم من ملكوته فيتلقونه بالرضا والانقياد.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمقرَّب: أبلغ من القريب لدلالة صيغته على الاصطفاء والاجتباء، وذلك قُرب مجازي، أي شُبه بالقرب في ملابسة القريب والاهتمام بشؤونه فإن المطيع بمجاهدته في الطاعة يكون كالمتقرب إلى الله، أي طالب القرب منه فإذا بلغ مرتبة عالية من ذلك قرّبه الله، أي عامله معاملة المقرّب المحبوب، كما جاء: « ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحِبَّه فإذا أحببته كنت سمعَه الذي يسمع به وبصَره الذي يُبصر به ويدَه التي يبطش بها ورجلَه الذي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه» وكل هذه الأوصاف مجازيه تقريباً لمعنى التقريب. ولم يُذكَر متعلِّق {المقربون} لظهور أنه مقرب من الله، أي من عنايته وتفضيله، وكذلك لم يذكر زَمان التقريب ولا مكانُه لقصد تعميم الأزمان والبقاع الاعتبارية في الدنيا والآخرة. وفي جعل المسند إليه اسم إشارة تنبيه على أنهم أحرياء بما يخبر عنه من أجل الوصف الوارد قبل اسم الإشارة وهو أنهم السابقون على نحو ما تقدم في قوله تعالى: {أولئك على هدى من ربهم} في سورة البقرة (5).
تفسير القرآن الكريم لابن عثيمين 1421 هـ :
{أولئك المقربون} ذكر منزلتهم قبل ذكر منزلهم، قبل أن يبدأ بذكر الثواب؛ لأن قربهم من الله -عز وجل- فوق كل شيء، جعلنا الله منهم.
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.