التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{أَيَحۡسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِۦ مِن مَّالٖ وَبَنِينَ} (55)

ثم تأخذ السورة الكريمة بعد ذلك فى السخرية منهم لغفلتهم عن هذا المصير المحتوم ، الذى سيفاجئهم بما لا يتوقعون . فيقول : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات بَل لاَّ يَشْعُرُونَ } .

والهمزة فى قوله { أَيَحْسَبُونَ } للاستفهام الإنكارى . و " ما " موصولة ، وهى اسم " أن " وخبرها جملة " نسارع لهم .

. . " والرابط مقدر أى : به .

أى : أيزن هؤلاء الجاهلون . أن ما نعطيهم إياه من مال وبنين ، هو من باب المسارعة منا فى إمدادهم بالخيرات لرضانا عنهم وإكرامنا لهم ؟ كلا : ما فعلنا معهم ذلك لتكريمهم ، وإنما فعلنا ذلك معهم لاستدراجهم وامتحانهم ، ولكنهم لا يشعرون بذلك . ولا يحسون به لانطماس بصائرهم ولاستيلاء الجهل والغرور على نفوسهم .

فقوله - سبحانه - { بَل لاَّ يَشْعُرُونَ } إضراب انتقالى عن الحسبان المذكور وهو معطوف على مقدر ينسحب إليه الكلام .

أى : ما فعلنا ذلك معهم لإكرامنا إياهم كما يظنون ، بل فعلنا ما فعلنا استدارجا لهم ، ولكنهم لا يشعرون لهم ولا إحساس ، وما هم إلا كالأنعام بل هم أضل .

لذا قال بعض الصالحين : من يعص الله - تعالى - ولم ير نقصاناً فيما أعطاه - سبحانه - من الدنيا . فليعلم أنه مستدرج قد مكر به .

وشبيه بهاتين الآيتين قوله - تعالى - : { فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بهذا الحديث سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ }

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{أَيَحۡسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِۦ مِن مَّالٖ وَبَنِينَ} (55)

{ أيحسبون أنما نمدهم به } أن ما نعطيهم ونجعله لهم مددا ، { من مال وبنين } بيان لما وليس خبرا له ، فإنه غير معاتب عليه وإنما المعاتب عليه اعتقادهم أن ذلك خير لهم خبره .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{أَيَحۡسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِۦ مِن مَّالٖ وَبَنِينَ} (55)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم قال سبحانه: {أيحسبون أنما نمدهم به} يعني: نعطيهم {من مال وبنين}.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

قوله:"أيَحْسَبُونَ أنّما نُمِدّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينٍ" يقول تعالى ذكره: أيحسب هؤلاء الأحزاب الذين فرقوا دينهم زُبُرا، أن الذي نعطيهم في عاجل الدنيا من مال وبنين "نُسارِعُ لَهُمْ "يقول: نسابق لهم في خيرات الآخرة، ونبادر لهم فيها؟ و «ما» من قوله: "أنّمَا نُمِدّهُمْ بهِ" نصب، لأنها بمعنى «الذي». "بَلْ لا يَشْعُرُونَ" يقول تعالى ذكره تكذيبا لهم: ما ذلك كذلك، بل لا يعلمون أن إمدادي إياهم بما أمدّهم به من ذلك، إنما هو إملاء واستدراج لهم.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

هذا في شأن أصحاب الاستدراج من مَكْرِ الحقِّ بهم بتلبيس المنهاج؛ رَأَوا سَرَاباً فَظَنْوه شراباً، ودَس لهم في شهْدِهم صاباً فتوهموه عِذَاباً، وحين لقوا عَذَاباً عَلِموا أنهم لم يفعلوا صواباً.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، ونهى عن الاستعجال بعذابهم والجزع من تأخيره... والمعنى: أنّ هذا الإمداد ليس إلا استدراجاً لهم إلى المعاصي، واستجراراً إلى زيادة الإثم، وهم يحسبونه مسارعة لهم في الخيرات، وفيما لهم فيه نفع وإكرام، ومعاجلة بالثواب قبل وقته. ويجوز أن يراد في جزاء الخيرات كما يفعل بأهل الخير من المسلمين. و {بَل} استدراك لقوله: {أَيَحْسَبُونَ} يعني: بل هم أشباه البهائم لا فطنة بهم ولا شعور، حتى يتأملوا ويتفكروا في ذلك: أهو استدراج، أم مسارعة في الخير؟

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

ثم وقفهم على خطأ رأيهم في أَن نعمة الله عندهم بالمال ونحوه إنما هي لرضاه عن حالهم وبين تعالى أن ذلك إنما هو إملاء واستدراج.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ} يعني: أيظن هؤلاء المغرورون أن ما نعطيهم من الأموال والأولاد لكرامتهم علينا ومعزتهم عندنا؟! كلا ليس الأمر كما يزعمون في قولهم: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ: 35]، لقد أخطأوا في ذلك وخاب رجاؤهم، بل إنما نفعل بهم ذلك استدراجًا وإنظارًا وإملاء؛ ولهذا قال: {بَل لا يَشْعُرُونَ}، كما قال تعالى: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 55]، وقال تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران: 178]، وقال تعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم: 44، 45]... والآيات في هذا كثيرة..

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما كان الموجب لغرورهم ظنهم أن حالهم -في بسط الأرزاق من الأموال والأولاد- حال الموعود لا المتوعد، أنكر ذلك عليهم تنبيهاً لمن سبقت له السعادة، وكتبت له الحسنى وزيادة، فقال: {أيحسبون} أي لضعف عقولهم... {من مال} نيسره لهم {وبنين} نمتعهم بهم.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ويأخذ في التهكم عليهم والسخرية من غفلتهم، إذ يحسبون أن الإملاء لهم بعض الوقت، وإمدادهم بالأموال والبنين في فترة الاختبار، مقصود به المسارعة لهم في الخيرات وإيثارهم بالنعمة والعطاء: (أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات؟) وإنما هي الفتنة، وإنما هو الابتلاء:... لا يشعرون بما وراء المال والبنين من مصير قاتم ومن شر مستطير!...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

... جملة {فذرهم} تشتمل على معنى عدم الاكتراث بما هم فيه من الأحوال التي ألْهَتهم عن النظر في دعوة الإسلام وغرتهم بأنهم بمحل الكرامة على الله بما خولهم من العزة و الترف، وما تشتمل عليه من التوعد بأن ذلك له نهاية ينتهون إليها وأن الله أعطاهم ما هم فيه زمن النعمة استدراجاً لهم. وهذا كقوله تعالى {وذَرْني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلاً} [المزمل: 11] وقوله: {لا يَغُرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل} [آل عمران: 196، 197].

والاستفهام في {أيحسبون} إنكاري وتوبيخ على هذا الحسبان سواء كان هذا الحسبان حاصلاً لجميع المشركين أم غير حاصل لبعض، لأن حالهم حال من هو مظنة هذا الحسبان فينكر عليه هذا الحسبان لإزالته من نفسه أو لدفع حصوله فيها...

والإمداد: إعطاء المدد وهو العطاء.

التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :

وفي الآيات صورة لما كان من مباهاة الكفار بأموالهم وأولادهم واعتدادهم بذلك وحسبانهم إياه دليلا على عناية الله بهم وادعائهم بأنهم على حق بما هم عليه. ولقد حكت ذلك عنهم آيات عديدة مرت أمثلة منها مما يدل على أنهم كانوا يسوقونه من حين إلى آخر في معرض الجدل والمماراة.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

ثم ينتقل السياق ليعالج قضية قد تشغل حتى كثيرا من المؤمنين: {أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين (55) نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون (56)}: هذه قضية شغلت كثيرا من المؤمنين حين يرون الكافرين بالله مرفهين منعمين، في يدهم المال والنفوذ، في حين أن المؤمنين فقراء، وربما تشكك البعض واهتز إيمانه لهذه المتناقضات. ونقول لهؤلاء: لم تكن هذه صورة المؤمنين في الماضي، إنهم سادوا الدنيا بعلومهم وثقافاتهم وازدهرت حضارتهم على مدى ألف سنة من الزمان، فلما تخلوا عن دينهم وقيمهم حل بهم ما هم فيه الآن. لقد تقدم علينا الآخرون، لأنهم أخذوا بأسباب الدنيا، وينبغي علينا نحن المسلمين أن نأخذ أيضا بهذه الأسباب، لأنها من عطاء الربوبية الذي لا يحرم منه لا مؤمن ولا كافر، فمن أحسنه نال ثمرته وأخذ خيره. قال سبحانه: {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب (20)} [الشورى].

والأسباب يد الله الممدودة لخلقه، فمن رد يد الله إليه فلا بد أن يشقى في رحلة الحياة. وقد يكون تنعم هؤلاء مجرد ترف يجرهم إلى الطغيان، كما جاء في قوله تعالى: {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون (44)} [الأنعام]. لذلك فالحق- تبارك وتعالى- يعالج هنا هذه المسألة: {أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين (55) نسارع لهم في الخيرات.. (56)} أيظنون أن هذا خير لهم؟ لا، بل هو إمهال واستدراج ليزدادوا طغيانا. وفي موضع آخر يقول سبحانه: {ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا.. (85)} [التوبة]. وقوله تعالى: {بل لا يشعرون}، (بل): تفيد الإضراب عما قبلها وإثبات ما بعدها، إضراب عن مسألة تنعم هؤلاء، لأنها نعمة موقوتة وزائلة، وهي في الحقيقة عليهم نقمة، لكنهم لا يشعرون، لا يشعرون أن هذه النعمة لا تعني محبتهم ورضانا عنهم، ولا يشعرون بالمكيدة وبالفخ الذي يدبر لهم. وسبق أن أوضحنا أن الله تعالى حين يريد الانتقام من عدوه يمده أولا، ويوسع عليه ويعلي مكانته، حتى إذا أخذه كان أخذه مؤلما وشديدا.