وقوله - تعالى - : { بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا . والآخرة خَيْرٌ وأبقى } الإضراب فيه عن كلام مقدر يفهم من السياق .
والمعنى : لقد بينت لكم ما يؤدى إلى فلاحكم وفوزكم . . يا بنى آدم - كثير منكم لم يستجيب لما بينته له ، لأن الدنيا ومتعها زائلة ، أما الآخرة فخيرها باق لا يزول .
والخطاب لجميع الناس ، ويدخل فيه الكافرون دخولا أوليا ، وعليه يكون المراد بإيثار الحياة الدنيا بالنسبة للمؤمنين ، ما لا يخلو منه غالب الناس ، من اشتغالهم فى كثير من الأحيان بمنافع الدنيا ، وتقصيرهم فيما يتعلق بآخرتهم .
ويرى كثير من العلماء : أن الخطاب للكافرين على سبيل الالتفات ، ويؤيد أن الخطاب للكافرين قراءة أبى عمرو بالياء على طريقة الغيبة .
أى : بل إن الكافرين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة ، مع أن الآخرة خير وأبقى
{ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } أي : ثواب الله في الدار الآخرة خير من الدنيا وأبقى ، فإن الدنيا دنيَّة فانية ، والآخرة شريفة باقية ، فكيف يؤثر عاقل ما يفنى على ما يبقى ، ويهتم بما يزول عنه قريبا ، ويترك الاهتمام بدار البقاء والخلد ؟ !
قال الإمام أحمد : حدثنا حسين بن محمد ، حدثنا ذُوَيد ، عن أبي إسحاق ، عن عُرْوَة ، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الدنيا دَارُ من لا دارَ له ، ومال من لا مال له ، ولها يجمع من لا عقل له " {[29982]} .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يحيى بن واضح ، حدثنا أبو حمزة ، عن عطاء ، عن عَرْفَجة الثقفي قال : استقرأت ابن مسعود : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى } فلما بلغ : { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } ترك القراءة ، وأقبل على أصحابه وقال : آثرنا الدنيا على الآخرة . فسكت القوم ، فقال : آثرنا الدنيا لأنا رأينا زينتها ونساءها وطعامها وشرابها ، وزُويت عنا الآخرة فاخترنا هذا العاجل وتركنا الآجل{[29983]} .
وهذا منه على وجه التواضع والهضم ، أو هو إخبار عن الجنس من حيث{[29984]} هو ، والله أعلم .
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود الهاشمي ، حدثنا إسماعيل بن جعفر ، أخبرني عمرو بن أبي عمرو ، عن المطلب بن عبد الله ، عن أبي موسى الأشعري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أحب دنياه أضر بآخرته ، ومَن أحبّ آخرته أضرّ بدنياه ، فآثروا ما يبقَى على ما يفنى " . تفرد به أحمد .
وقد رواه أيضا عن أبي سلمة الخزاعي ، عن الدراوردي ، عن عمرو بن أبي عمرو ، به مثله سواء{[29985]} .
وقوله : بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدّنيْا يقول للناس : بل تؤثرون أيها الناس زينة الحياة الدنيا على الاَخرة والاَخِرَةُ خَيْرٌ لَكُمْ وأبْقَى يقول : وزينة الاَخرة خير لكم أيها الناس وأبقى بقاء ، لأن الحياة الدنيا فانية ، والاَخرة باقية ، لا تنفَدُ ولا تفنى . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدّنيْا فاختار الناس العاجلة إلا من عصم الله . وقوله : وَالاَخِرَةُ خَيْرٌ في الخير وأبْقَى في البقاء .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا أبو حمزة ، عن عطاء ، عن عَرْفَجَة الثقفيّ ، قال : استقرأت ابن مسعود سَبّحِ اسْمَ رَبّكَ الأعْلَى ، فلما بلغ : بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدّنيْا ترك القراءة ، وأقبل على أصحابه ، وقال : آثرنا الدنيا على الاَخرة ، فسكت القوم ، فقال : آثرنا الدنيا لأنا رأينا زينتها ونساءها وطعامها وشرابها ، وزُوِيت عنا الاَخرة ، فاخترنا هذا العاجل ، وتركنا الاَجل .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدّنيْا فقرأ ذلك عامّة قرّاء الأمصار : بَلْ تُؤْثِرُونَ بالتاء ، إلا أبا عمرو ، فإنه قرأه بالياء ، وقال : يعني الأشقياء .
والذي لا أوثر عليه في قراءة ذلك التاء ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه . وذُكر أن ذلك في قراءة أُبيّ : بَلْ أنْتُمْ تُؤْثِرُونَ فذلك أيضا شاهد لصحة القراءة بالتاء .
وجملة : { والآخرة خير وأبقى } عطف على جملة التوبيخ عطفَ الخبر على الإنشاء لأن هذا الخبر يزيد إنشاءَ التوبيخ توجيهاً وتأييداً بأنهم في إعراضهم عن النظر في دلائل حياة آخرة قد أعرضوا عما هو خير وأبقَى .
و { أبقى } : اسم تفضيل ، أي أطول بقاءً ، وفي حديث النهي عن جَرِّ الإزار « وليكن إلى الكعبين فإنه أتقَى وأبْقَى » .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله : "بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدّنيا" يقول للناس : بل تؤثرون أيها الناس زينة الحياة الدنيا على الآخرة.
"والآخِرَةُ خَيْرٌ" لَكُم "وأبْقَى" يقول : وزينة الآخرة خير لكم أيها الناس وأبقى بقاء ، لأن الحياة الدنيا فانية ، والآخرة باقية ، لا تنفَدُ ولا تفنى ... عن عَرْفَجَة الثقفيّ ، قال : استقرأت ابن مسعود سَبّحِ اسْمَ رَبّكَ الأعْلَى ، فلما بلغ : بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدّنيا ترك القراءة ، وأقبل على أصحابه ، وقال : آثرنا الدنيا على الآخرة ، فسكت القوم ، فقال : آثرنا الدنيا لأنا رأينا زينتها ونساءها وطعامها وشرابها ، وزُوِيت عنا الآخرة ، فاخترنا هذا العاجل ، وتركنا الآجل .
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
والآخرة خير لأهل الطاعة وأبقى على أهل الجنة . ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وتمامه أن كل ما كان خيرا وأبقى فهو آثر ، فيلزم أن تكون الآخرة آثر من الدنيا وهم كانوا يؤثرون الدنيا ، وإنما قلنا : إن الآخرة خير لوجوه؛
( أحدها ) : أن الآخرة مشتملة على السعادة الجسمانية والروحانية ، والدنيا ليست كذلك ، فالآخرة خير من الدنيا.
( وثانيها ) : أن الدنيا لذاتها مخلوطة بالآلام ، والآخرة ليست كذلك ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
خير في نوعها ، وأبقى في أمدها . وفي ظل هذه الحقيقة يبدو إيثار الدنيا على الآخرة حماقة وسوء تقدير . لا يقدم عليهما عاقل بصير . ...
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.