ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك جانبا من قصة نوح مع قومه ، فقال - تعالى - : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ . . . } .
تلك هى قصة نوح مع قومه ، كما وردت فى هذه السورة ، وقد ذكرت فى سور أخرى منها سور : الأعراف ، وهود ، والمؤمنون ، ونوح . . . ولكن بأساليب أخرى .
وينتهى نسب نوح - عليه السلام - إلى شيث بن آدم ، وقد ذكر نوح فى القرآن فى ثلاث وأربعين موضعا .
وكان قوم نوح يعبدون الأصنام ، فأرسل الله - تعالى - إليهم نوحا ، ليدلهم على طريق الرشاد .
وقوم الرجل : أقرباؤه الذين يجتمعون معه فى جد واحد . وقد يقيم الرجل بين الأجانب فيسميهم قومه مجازا لمجاورته لهم .
قال الآلوسى : والقوم - كما فى المصباح - يذكر ويؤنث ، وكذلك كل اسم جمع لا واحد له من فظه نحو رهط ونفر ، ولذا يصغر على قويمة ، وقيل : هو مذكر ولحقت فعله علامة التأنيث على إرادة الأمة والجماعة منه . .
والمراد بالمرسلين فى قوله - تعالى - : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين } نبيهم نوحا - عليه السلام - وعبر عنه بذلك ، لأن تكذيبهم له ، بمثابة التكذيب لجميع الرسل ، لأنهم قد جاءوا جميعا برسالة واحدة فى أصولها التى لا تختلف باختلاف الزمان والمكان .
تلك هي النهاية . نهاية القصة . يبدأ بها لإبرازها منذ البداية . ثم يأخذ في التفصيل .
وقوم نوح لم يكذبوا إلا نوحا . ولكنه يذكر أنهم كذبوا المرسلين . فالرسالة في أصلها واحدة ، وهي دعوة إلى توحيد الله ، وإخلاص العبودية له . فمن كذب بها فقد كذب بالمرسلين أجمعين ، فهذه دعوتهم أجمعين . والقرآن يؤكد هذا المعنى ويقرره في مواضع كثيرة ، بصيغ متعددة ، لأنه كلية من كليات العقيدة الإسلامية ، تحتضن بها الدعوات جميعا ؛ وتقسم بها البشرية كلها إلى صفين : صف المؤمنين وصف الكافرين ، على مدار الرسالات ومدار القرون . وينظر المسلم فإذا الأمة المؤمنة لكل دين وكل عقيدة من عند الله هي أمته ، منذ فجر التاريخ إلى مشرق الإسلام دين التوحيد الأخير . وإذا الصف الآخر هم الكفار في كل ملة وفي كل دين . وإذا المؤمن يؤمن بالرسل جميعا ، ويحترم الرسل جميعا ، لأنهم جميعهم حملة رسالة واحدة هي رسالة التوحيد .
إن البشرية لا تنقسم في تقدير المسلم إلى أجناس وألوان وأوطان . إنما تنقسم إلى أهل الحق وأهل الباطل . وهو مع أهل الحق ضد أهل الباطل . في كل زمان وفي كل مكان . وهكذا يتوحد الميزان في يد المسلم على مدار التاريخ كله ؛ وترتفع القيم في شعوره عن عصبية الجنس واللون واللغة والوطن ، والقرابات الحاضرة أو الموغلة في بطن التاريخ . ترتفع فتصبح قيمة واحدة . هي قيمة الإيمان يحاسب بها الجميع ، ويقوم بها الجميع .
هذا إخبار من الله ، عز وجل ، {[21794]} عن عبده ورسوله نوح ، عليه السلام ، وهو أول رسول بُعث إلى الأرض بعدما عبدت الأصنام والأنداد ، بعثه الله ناهيًا عن ذلك ، ومحذرًا من وَبيل عقابه ، فكذبه قومه واستمروا على ما هم عليه من الفعال الخبيثة في عبادتهم أصنامهم ، ويتنزل{[21795]} تكذيبهم له بمنزلة تكذيب جميع الرسل ؛ ولهذا قال : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ }
أسند { كذبت } إلى «القوم » وفيه علامة التأنيث من حيث القوم في معنى الأمة والجماعة{[8954]} ، وقوله { المرسلين } من حيث من كذب نبياً واحداً ، كذب جميع الأنبياء إذ قولهم واحد ودعوتهم سواء .
استئناف لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم ناشىءٌ عن قوله : { وما كان أكثرهم مؤمنين } [ الشعراء : 103 ] أي لا تأسَ عليهم ولا يعظُمْ عليك أنهم كذّبوك فقد كذبت قوم نوح المرسلين ؛ وقد علم العرب رسالةَ نوح ، وكذلك شأن أهل العقول الضالّة أنهم يعرفون الأحوال وينسون أسبابها .
وأنث الفعل المسند إلى قوم نوح لتأويل { قوم } بمعنى الأمة أو الجماعة كما يقال : قالت قريش ، وقالت بنو عامر ، وذلك قياس في كل اسم جَمع لا واحد له من لفظه إذا كان للآدمي مثل نَفَر ورهْط ، فأما إذا كان لغير الآدميين نحو إبل فمؤنث لا غير . قاله الجوهري وتبعه صاحب « اللسان » و« المصباح » .
ووقع في « الكشاف » هذه العبارة « القومُ مؤنثة وتصغيرُها قُويمة » فظاهر عبارته أن هذا اللفظ مؤنث المعنى في الاستعمال لا غير ، وهذَا لم يقله غيره وسكت شراحه عليه ولم يعرج الزمخشري عليه في « الأساس » فإن حمل على ظاهر العبارة فهو مخالف لكلام الجوهري وابن سيده . ويحتمل أنه أراد جواز تأنيث ( قوم ) وأنه يجوز أن يصغر على قويمة فيُجمع بين كلامه وكلام الجوهري وابن سيده ، وهو احتمال بعيد من ظاهر كلامه الموكَّد بقوله : وتصغيره قُويمة ، لما هو مقرر من أن التصغير يرد الأسماء إلى أصولها . وأيّاً مّا كان فهو صريح في أن تأنيثه ليس بتأويله بمعنى الأمة لأن التأويل اعتبار للمتكلم فلا يكون له أثر في إجراء الصيغ مثل التصغير ، فإن الصيغ من آثار الوضع دون الاستعمال ، ألا ترى أنه لا تجعل للمعاني المجازية صيغ خاصة بالمجاز .
وجُمع { المرسلين } وإنما كذَّبوا رسولاً واحداً أولَ الرسل ولم يكن قبله رسول وهم أول المكذّبين ، فإنما جُمع لأن تكذيبهم لم يكن لأجل ذاته ولكنه كان لإحالتهم أن يرسل الله بشراً ، وأن تكون عبادة أصنامهم ضلالاً فكان تكذيبهم إياه مقتضياً تكذيب كل رسول لأن كل رسول يقول مثل ما قاله نوح عليه السلام ، ولذلك تكرر في قوله : { كذبت عاد المرسلين } [ الشعراء : 123 ] وما بعده . وقد حكي تكذيبهم أن يكون الرسول بشراً في قوله : { أَوَعَجِبْتم أن جاءكم ذِكْر من ربكم على رجل منكم لينذركم } في [ الأعراف : 63 ] .
وسيأتي حكاية تكذيب عاد وثمود وقوم لوط وأصحاب لَيْكة على هذا النمط فيما تكرر من قوله : { كذبت } وقوله : { المرسلين } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.