ثم بين سبحانه - السبب في تكليفه المؤمنين بمجاهدة الكافرين والإِغلاظ عليهم وقتلهم .
فقال - تعالى - { ذلك بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } .
فاسم الإِشارة { ذلك } يعود إلى ما سبق بيانه من تأييد المؤمنين ، وأمرهم بضرب الكافرين . . وهو في محل رفع على الابتداء . وقوله { بِأَنَّهُمْ } خبره . والباء للسببية .
وقوله : { شَآقُّواْ } من المشاقة بمعنى المخالفة والمعاداة مشتقة من الشق - أي الجانب - فكل واحد من المتعاديين أو المتخالفين صار في شق غير شق صاحبه .
والمعنى : ذلك الذي ذكره الله - تعالى - فيما سبق ، من تأييده للمؤمنين وأمره إياهم بضرب الكافرين ، سببه أن هؤلاء الكافرين { شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ } أى : عاد وهما وخالفوا شرعهما : { وَمَن يُشَاقِقِ الله وَرَسُولَهُ } بأن يسير في غير الطريق الذي أمرا به ، { فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } لهذا المادى والمخالف .
قال الآلوسى : وقوله : { فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } إما نفس الجزاء ، وقد حذف منه العائد عند من يكتفى ولا يلتزم بالعائد في الربط . أى : شديد العقاب له . أو قائم مقام الجزاء المحذوف أى : يعاقبه الله - تعالى - فإن الله شديد العقاب . وأياما كان فالشرطية بيان للسببية السابقة بطريق برهانى . كأنه قيل : ذلك العقاب الشديد المشاقة لله - تعالى - ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - وكل من يشاقق الله ورسوله كائنا من كان ، فله بسبب ذلك عقاب شديد ، فإن لهم بسبب مشاقة الله ورسوله عقابا شديدا .
( ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله . ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب ) . .
إنها ليست فلتة عارضة ، ولا مصادفة عابرة ، أن ينصر الله العصبة المسلمة ، وأن يسلط على أعدائها الرعب والملائكة مع العصبة المسلمة . . إنما ذلك لأنهم شاقوا الله ورسوله ، فاتخذوا لهم شقاً غير شق الله ورسوله ، وصفا غير صف الله ورسوله . ووقفوا موقف الخلف والمشاقة هذا يصدون عن سبيل الله ، ويحولون دون منهج الله للحياة .
( ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب ) . .
ينزل عقابه الشديد على الذين يشاقونه ويشاقون رسوله . وهو قادر على عقابهم وهم أضعف من أن يقفوا لعقابه . .
قاعدة وسنة . لا فلتة ولا مصادفة . قاعدة وسنة أنه حيثما انطلقت العصبة المسلمة في الأرض لتقرير ألوهية الله وحده ، وإقامة منهج الله وحده ، ثم وقف منها عدوّ لها موقف المشاقة لله ورسوله ، كان التثبيت والنصر للعصبة المسلمة ، وكان الرعب والهزيمة للذين يشاقون الله ورسوله . ما استقامت العصبة المسلمة على الطريق ، واطمأنت إلى ربها ، وتوكلت عليه وحده ، وهي تقطع الطريق .
وفي نهاية المشهد يتوجه بالخطاب إلى أولئك الذين شاقوا الله ورسوله . . إن هذا الذي حل بكم في الدنيا من الرعب والهزيمة ليس نهاية المطاف . فأمر هذا الدين والحركة به والوقوف في طريقه ، ليس أمر هذه الأرض وحدها ، ولا أمر هذه الحياة الدنيا بمفردها . . إنه أمر ممتد إلى ما وراء هذه الأرض ، وإلى ما بعد هذه الحياة . . إن أبعاده تمتد وراء هذه الآماد القريبة :
ولذلك قال [ الله ]{[12745]} تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي : خالفوهما فساروا في شق ، وتركوا الشرع والإيمان به واتباعه في شق - وهو مأخوذ أيضا من شق العصا ، وهو جعلها فرقتين - { وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } أي : هو الطالب الغالب لمن خالفه وناوأه ، لا يفوته شيء ، ولا يقوم لغضبه شيء ، تبارك وتعالى ، لا إله غيره ، ولا رب سواه .
هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمؤمنون داخلون فيه بالمعنى والضمير في { بأنهم } عائد على الذين كفروا ، و { شاقوا } معناه خالفوا ونابذوا وقطعوا ، وهو مأخوذ من الشق وهو القطع والفصل بين شيئين ، وهذه مفاعلة فكأن الله لما شرع شرعاً وأمر بأوامر وكذبوا هم وصدوا تباعد ما بينهم وانفصل وانشق ، مأخوذ من هذا لأنه مع شقه الآخر تباعدا وانفصلا وعبر المفسرون عن قوله { شاقوا } أي صاروا في شق غير شقه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا وإن كان معناه صحيحاً فتحرير الاشتقاق إنما هو ما ذكرناه ، والمثال الأول إنما هو الشَّق بفتح الشين ، وأجمعوا على الإظهار في { يشاقق } إتباعاً لخط المصحف ، وقوله { فإن الله شديد العقاب } جواب الشرط تضمن وعيداً وتهديداً
وجملة : { ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله } تعليل لأن الباء في قوله { بأنهم } باء السببية فهي تفيد معنى التعليل ولهذا فُصلت الجملة .
والمخاطب بهذه الجملة : إما الملائكة ، فتكون من جملة الموحى به إليهم إطْلاعاً لهم على حكمة فعل الله تعالى . لزيادة تقريبهم ، ولا يريبك إفراد كاف الخطاب في اسم الإشارة لأن الأصل في الكاف مع اسم الإشارة الإفراد والتذكير ، وإجراؤها على حسب حال المخاطب بالإشارة جائز وليس بالمتعين ، وإما من تبلغهم الآية من المشركين الأحياء بعد يوم بدر ، ولذا فالجملة معترضة للتحذير من الاستمرار على مشاقة الله ورسوله . والقول في إفراد الكاف هُو هُو إذ الخطاب لغير معين والمراد نوع خاص ، ويجوز أن يكون المخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم
والمشار إليه ما أمروا به من ضرب الأعناق وقطع البنان .
وإفراد اسم الإشارة بتأويله بالمذكور ، وتقدم غير مرة .
والمشاقة العداوة بعصيان وعناد ، مشتقة من الشّق بكسر الشين وهو الجانب ، هو اسم بمعنى المشقوق أي المفرق ، ولما كان المخالف والمعادي يكون متباعداً عن عدوه فقد جعل كأنه في شق آخر ، أي ناحية أخرى ، والتصريح بسبب الانتقام تعريض للمؤمنين ليستزيدوا من طاعة الله ورسوله ، فإن المشيئة لما كانت سبب هذا العقاب العظيم فيوشك ما هو مخالفة للرسول بدون مشاقة أن يُوقع في عذاب دون ذلك ، وخليق بأن يكون ضدها وهو الطاعة موجباً للخير .
وجملة : { ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب } تذييل يعم كل من يشاقق الله ويعم أصناف العقائد .
والمراد من قوله : { فإن الله شديد العقاب } الكناية عن عقاب المشاقين وبذلك يظهر الارتباط بين الجزاء وبين الشرط باعتبار لازم الخبر وهو الكناية عن تعلق مضمون ذلك الخبر بمن حصل منه مضمون الشرط ، كقول عنترة :
إن تُغْدِفي ، دونِي القناع فإنني *** طَبُّ بأخذ الفارس المستلْئمِ
يريد فأني لا يخفى عليَّ من يستر وجهه مني وأني أتوسّمه وأعرفه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.