وبعد هذا العرض البديع لمظاهر قدرة الله - تعالى - فى هذا الكون ، ولمظاهر نعمه على خلقه ، ساقت السورة الكريمة جانبا من أحوال المكذبين للرسل السابقين . تسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه من قومه ، فقال - تعالى - : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ . . . مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } .
أى : لا تحزن - أيها الرسول الكريم - لما أصابت من أذى من هؤلاء المشركين الجاحدين المكذبين فقد سبقهم إلى هذا التكذيب والكفر والجود " قوم نوح " - عليه السلام - ، فإنهم قد قالوا فى حقه إنه مجنون ، كما حكى عنهم ذلك فى قوله - تعالى - : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وازدجر } وقوله : { أَصْحَابُ الرس } معطوف على ما قبله ، والرس فى لغة العرب : البئر التى لم تبن بعد بالحجارة ، وقيل : هى البئر طلقا .
وللمفسرين فى حقيقة أصحاب الرس أقوال : فمنهم من قال إنهم من بقايا قبيلة ثمود ، بعث الله إليهم واحدا من أنبيائه ، فكذبوه ورسوه فى تلك البئر ، أى : ألقوا به فيها فأهلكهم - سبحانه - بسبب ذلك .
وقيل : هم الذين قتلوا حبيبا النجار عندما جاء يدعوهم إلى الدين الحق ، وكانت تلك البئر بأنطاكية ، وبعد قتلهم له ألقوه فيها . وقيل : هم قوم شعيب - عليه السلام - .
واختبار ابن جرير - رحمه الله - أن أصحاب الرسل هم أصحاب الأخدود ، الذين جاء الحديث عنهم فى سورة البروج .
والمراد بثمود : قوم صالح - عليه السلام - الذين كذبوه فأهلكهم الله - تعالى - .
ثم يعقب بعرض صفحات من كتاب التاريخ البشري بعد عرض تلك الصفحات من كتاب الكون ، تنطق بمآل المكذبين الذين ماروا كما يماري هؤلاء المشركون في قضية البعث ، وكذبوا كما يكذبون بالرسل ، فحق عليهم وعيد الله الذي لا مفر منه ولا محيد :
( كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود ، وعاد وفرعون وإخوان لوط ، وأصحاب الأيكة ، وقوم تبع . كل كذب الرسل فحق وعيد . أفعيينا بالخلق الأول ? بل هم في لبس من خلق جديد ) . .
والرس : البئر : المطوية غير المبنية . والأيكة : الشجر الملتف الكثيف . وأصحاب الأيكة هم - في الغالب - قوم شعيب . أما أصحاب الرس فلا بيان عنهم غير هذه الإشارة . وكذلك قوم تبع . وتبع لقب لملوك حمير باليمن . وبقية الأقوام المشار إليهم هنا معروفون لقاريء القرآن .
وواضح أن الغرض من هذه الإشارة السريعة ليس تفصيل أمر هذه الأقوام . ولكنه إيقاع على القلوب بمصارع الغابرين . حين كذبوا الرسل . والذي يلفت النظر هو النص على أن كلا منهم كذب الرسل : ( كل كذب الرسل فحق وعيد ) . وهي لفتة مقصودة لتقرير وحدة العقيدة ووحدة الرسالة . فكل من كذب برسول فقد كذب بالرسل أجمعين ؛ لأنه كذب بالرسالة الواحدة التي جاء بها الرسل أجمعون . والرسل إخوة وأمة واحدة وشجرة ضاربة الجذور في أعماق الزمان ، وكل فرع من تلك الشجرة تلخيص لخصائصها ، وصورة منها . ومن يمس منها فرعا فقد مس الأصل وسائر الفروع . . ( فحق وعيد )ونالهم ما يعرف السامعون !
يقول تعالى متهددا لكفار قريش بما أحله بأشباههم ونظرائهم وأمثالهم من المكذبين قبلهم ، من النقمات والعذاب الأليم في الدنيا ، كقوم نوح وما عذبهم الله به من الغرق العام{[27276]} لجميع أهل الأرض ، وأصحاب الرس وقد تقدمت قصتهم في سورة " الفرقان " {[27277]} { وَثَمُودُ . وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ } ، وهم أمته الذين بعث إليهم من أهل سدوم ومعاملتها من الغور ، وكيف خسف الله بهم الأرض ، وأحال أرضهم بحيرة منتنة خبيثة ؛ بكفرهم وطغيانهم ومخالفتهم الحق .
{ وأصحاب الرس } قوم كان لهم بئر عظيمة وهي { الرس } ، وكل ما لم يطو من بئر أو معدن أو نحوه فهو رسّ . وأنشد أبو عبيدة للنابغة الجعدي :
سبقت إلى قرطبا هل . . . تنابلة يحفرون الرساسا{[10523]}
وجاءهم نبي يسمى حنظلة بن صفوان فيما روي فجعلوه في { الرس } وردموا عليه . فأهلكهم الله ، وقال كعب الأحبار في كتاب الزهراوي : { أصحاب الرس } هم أصحاب الأخدود وهذا ضعيف . لأن أصحاب الأخدود لم يكذبوا نبياً ، إنما هو ملك أحرق قوماً . وقال الضحاك { الرس } : بئر قتل فيها صاحب ياسين ، قال منذر وروي عن ابن عباس أنهم قوم عاد .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{كذبت قبلهم} قبل أهل مكة {قوم نوح وأصحاب الرس} يعني أصحاب البئر اسمها فلج، وهي البئر التي قتل فيها حبيب النجار صاحب ياسين {وثمود}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره" كذّبتْ "قبل هؤلاء المشركين الذين كذّبوا محمدا صلى الله عليه وسلم من قومه "قَوْمُ نوحٍ وأصحْابُ الرّسّ" وقد مضى ذكرنا قبل أمر أصحاب الرسّ، وأنهم قوم رسّوا نبيهم في بئر...
"وثَمُودُ وعَادٌ وَفِرْعُوْنُ وَإخْوَانُ لُوطٍ وأصْحابُ الأيْكَةِ" وهم قوم شعيب، وقد مضى خبرهم قبل "وَقَوْمُ تُبّعٍ"، وكان قوم تُبّعٍ أهل أوثان يعبدونها... وقوله: "كُلّ كَذّب الرّسُلَ فَحَق وَعَيِدِ" يقول تعالى ذكره: كلّ هؤلاء الذين ذكرناهم كذّبوا رسل الله الذين أرسلهم "فَحَقّ وَعِيد" يقول: فوجب لهم الوعيد الذي وعدناهم على كفرهم بالله، وحل بهم العذاب والنقمة. وإنما وصف ربنا جلّ ثناؤه ما وصف في هذه الآية من إحلاله عقوبته بهؤلاء المكذّبين الرسل ترهيبا منه بذلك مشركي قريش وإعلاما منه لهم أنهم إن لم ينيبوا من تكذيبهم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، أنه محلّ بهم من العذاب، مثل الذي أحلّ بهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ذكر هذه الأنباء لوجهين: أحدهما: يصبّر رسوله صلى الله عليه وسلم على أذى قومه وتكذيبهم إياه كما صبّر أولئك؛ يقول: إنك لست بأول رسول، كذّبه قومه، بل كان قبلك رسل، كذّبهم قومهم، فصبروا على ذلك، فاصبر أنت أيضا... والثاني: يحذّر قومه أن ينزل بتكذيبهم إياه وسوء معاملتهم به كما نزل بمن ذكر من الأقوام بتكذيبهم وسوء معاملتهم. وعلى هذين المعنيين جمع ما ذكر في القرآن من الأنباء، والله أعلم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما وصل الأمر إلى حد لا خفاء معه، فصح أنهم يعلمون ذلك ولم يحملهم على التصريح بالتكذيب به إلا المبادرة إلى ذلك بغلبة الهوى من غير تأمل لعاقبته، فصار من باب لزوم الغلط، وكان السياق لإنكار البعث الذي جاء به منذر من القوم المنذرين، كان كأنه قيل: إن إنكار هؤلاء أعجب، فهل وقع هذا لأحد قط، فقال تعالى مسلياً لهذا النبي الكريم لأن المصيبة إذا عمت هانت، مبيناً لمجد القرآن ولمجد آياته تحقيقاً للإنذار وتحذيراً به لا للنصيحة: {كذبت} وسم الفعل بالتاء إشارة إلى هوانهم في جنب هذا المجد ولما كان هؤلاء الأحزاب المذكورون لقوتهم وكثرتهم كأنهم أهل المجد قاطبة قد استغرقوا زمانها ومكانها، أسقط الجارّ فقال: {قبلهم}.
ولما لم تكن لهم شهرة يعرفون بها قال: {قوم نوح} وأشار إلى عظيم التسلية بأنهم جاءهم منذر منهم، وكانوا في القوة في القيام فيما يحاولونه والكثرة بحيث لا يسع الأفهام جميع أوصافهم، فآذوا رسولهم وطال أذاهم قريباً من عشرة قرون ولما كان آخر أمرهم أنه التقى عليهم الماءان: ماء السماء، وطلع إليهم ماء الأرض فأغرقهم، أتبعهم من طائفتهم قصتهم بأن نزل بهم الماء فأوبقهم لما بين حاليهم من الطباق دلالة على عظيم القدرة والفعل بالاختيار فقال: {وأصحاب الرس} أي البئر التي تقوضت بهم فخسفت مع ما حولها فذهبت بهم وبكل ما لهم كما ذكرت قصتهم في الفرقان. ولما كانت آية قوم- صالح من أعظم الدلالات على القدرة على البعث، وكان إهلاكهم مناسباً لإهلاك من قبلهم، أما لأصحاب الرس فكان بالرجفة التي هي على مبدأ الخسف، وأما لقوم نوح فلأن الرجفة تأثرت عن الصيحة التي حملتها الريح التي من شأنها حمل السحاب الحامل للماء، أتبعهم بهم، وكانوا أصحاب بئر ولم يخسف بهم فقال: {وثمود}
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يعقب بعرض صفحات من كتاب التاريخ البشري بعد عرض تلك الصفحات من كتاب الكون، تنطق بمآل المكذبين الذين ماروا كما يماري هؤلاء المشركون في قضية البعث، وكذبوا كما يكذبون بالرسل، فحق عليهم وعيد الله الذي لا مفر منه ولا محيد:
(كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود، وعاد وفرعون وإخوان لوط، وأصحاب الأيكة، وقوم تبع. كل كذب الرسل فحق وعيد. أفعيينا بالخلق الأول؟ بل هم في لبس من خلق جديد)..
والرس: البئر: المطوية غير المبنية. والأيكة: الشجر الملتف الكثيف. وأصحاب الأيكة هم -في الغالب- قوم شعيب. أما أصحاب الرس فلا بيان عنهم غير هذه الإشارة. وكذلك قوم تبع. وتبع لقب لملوك حمير باليمن. وبقية الأقوام المشار إليهم هنا معروفون لقارئ القرآن.
وواضح أن الغرض من هذه الإشارة السريعة ليس تفصيل أمر هذه الأقوام. ولكنه إيقاع على القلوب بمصارع الغابرين. حين كذبوا الرسل. والذي يلفت النظر هو النص على أن كلا منهم كذب الرسل: (كل كذب الرسل فحق وعيد). وهي لفتة مقصودة لتقرير وحدة العقيدة ووحدة الرسالة. فكل من كذب برسول فقد كذب بالرسل أجمعين؛ لأنه كذب بالرسالة الواحدة التي جاء بها الرسل أجمعون. والرسل إخوة وأمة واحدة وشجرة ضاربة الجذور في أعماق الزمان، وكل فرع من تلك الشجرة تلخيص لخصائصها، وصورة منها. ومن يمس منها فرعا فقد مس الأصل وسائر الفروع.. (فحق وعيد) ونالهم ما يعرف السامعون!