ثم ختم - سبحانه - قصة شعيب مع قومه بمثل ما ختم به قصص الرسل السابقين مع أقوامهم فقال - تعالى - : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم } .
وإلى هنا ترى سورة الشعراء قد ساقت لنا سبع قصص من قصص الأنبياء مع أقوامهم .
ساقت لنا قصة موسى ، فإبراهيم ، فنوح . فهود ، فصالح ، فلوط ، فشعيب - عليهم جميعا الصلاة والسلام - .
ويلاحظ فى قصص هذه السورة ، أنها لم تجىء على حسب الترتيب الزمنى - كما هو الشأن فى سورة الأعراف - وذلك لأن المقصود الأعظم هنا هو الاعتبار والاتعاظ ، فأما فى سورة الأعراف ، فكان التسلسل الزمنى مقصودا لعرض أحوال الناس منذ آدم - عليه السلام - .
كما يلاحظ أن معظم القصص هنا ، قد افتتح بافتتاح متشابه ، وهو أمر كل نبى قومه بتقوى الله ، وببيان أنه رسول أمين . وببيان أنه لا يطلب من قومه أجرا على دعوته ، نرى ذلك واضحا فى قصة نوح وهود وصالح وشعيب ولوط مع أقوامهم .
ولعل السر فى ذلك التأكيد على أن الرسل جميعا قد جاؤوا برسالة واحدة فى أصولها وأسسها ، ألا وهى الدعوة إلى إخلاص العبادة لله - تعالى - ، وإلى مكارم الأخلاق .
كما يلاحظ - أيضا - أن كل قصة من تلك القصص قد اختتمت بقوله - تعالى - : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم } .
ولعل السر فى ذلك تكرار التسلية للنبى صلى الله عليه وسلم ، وتثبيت فؤاده . وبيان أن ما أصابه من قومه ، قد أصاب الرسل السابقين ، فعليه أن يصبر كما صبروا ، وقد قالوا : " المصيبة إذا عمت خفت " .
كما يلاحظ - كذلك - على قصص هذى السورة التركيز على أهم الأحداث وبيان الرذائل التى انغمس فيها أولئك الأقوام ، باستثناء قصة موسى - عليه السلام - مع فرعون فقد جاءت بشىء من التفصيل .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مّؤْمِنِينَ * وَإِنّ رَبّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ } .
يقول تعالى ذكره : إن في تعذيبنا قوم شُعيب عذاب يوم الظلة ، بتكذيبهم نبيهم شُعيبا ، لاَيةً لقومك يا محمد ، وعبرةً لمن اعتبر ، إن اعتبروا أن سنتنا فيهم بتكذيبهم إياك ، سنتنا في أصحاب الأيكة وَما كانَ أكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ في سابق علمنا فيهم وَإنّ رَبّكَ يا محمد لَهُوَ العَزِيزُ في نقمته ممن انتقم منه من أعدائه الرّحِيمُ بمن تاب من خلقه ، وأناب إلى طاعته .
{ إنه كان عذاب يوم عظيم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين } { وإن ربك لهو العزيز الرحيم } هذا آخر القصص السبع المذكورة على سبيل الاختصار تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهديدا للمكذبين به ، وإطراد نزول العذاب على تكذيب الأمم بعد أنزال الرسل به ، واقتراحهم له استهزاء وعدم مبالاة به يدفع أن يقال إنه كان بسبب اتصالات فلكية أو كان ابتلاء لهم لا مؤاخذة على تكذيبهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإن ربك لهو العزيز} في نقمته من أعدائه {الرحيم} بالمؤمنين.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 190]
يقول تعالى ذكره: إن في تعذيبنا قوم شُعيب عذاب يوم الظلة، بتكذيبهم نبيهم شُعيبا، لاَيةً لقومك يا محمد، وعبرةً لمن اعتبر، إن اعتبروا أن سنتنا فيهم بتكذيبهم إياك، سنتنا في أصحاب الأيكة. "وَما كانَ أكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ "في سابق علمنا فيهم. "وَإنّ رَبّكَ يا محمد لَهُوَ العَزِيزُ" في نقمته ممن انتقم منه من أعدائه "الرّحِيمُ" بمن تاب من خلقه، وأناب إلى طاعته.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 140]
{الْعِزيزُ}: القادر على استئصالهم، {الرَّحِيمُ} الذي أخَّرَ العقوبة عنهم بإمهالهم، ولم يقطع الرزقَ مع قُبْحِ فِعالِهم. وهو {عزيز} لم يُسْتَضَرّ بقبيح أعمالهم، ولو كانوا أجمعوا على طاعته لمَّا تَجَمَّلَ بأفعالهم.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 190]
هذا آخر القصص السبع المذكورة على سبيل الاختصار تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهديدا للمكذبين به،..
مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي 710 هـ :
"وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم" وقد كرر في هذه السورة في أول كل قصة وآخرها ما كرر تقريراً لمعانيها في الصدور ليكون أبلغ في الوعظ والزجر...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان هذا كله تأسية للداعي صلى الله عليه وسلم، وتهديداً لمن تمادى على تكذيبه، وترجية لمن رجع عن ذنوبه، أشار إلى ذلك بقوله: {وإن ربك} أي المحسن إليك بكل ما يعلي شأنك، ويوضح برهانك {لهو العزيز} فلا يعجزه أحد، ولا ينسب في إمهال عاص إلى إهمال ولا عجز {الرحيم*} فلا يأخذ إلا بعد تجاوز الحد، واليأس عن الرد، مع البيان الشافي، في الإبلاغ الوافي، والتلطف الكافي...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ} الذي امتنع بقدرته، عن إدراك أحد، وقهر كل مخلوق. {الرَّحِيمُ} الذي الرحمة وصفه ومن آثارها، جميع الخيرات في الدنيا والآخرة، من حين أوجد الله العالم إلى ما لا نهاية له. ومن عزته أن أهلك أعداءه حين كذبوا رسله، ومن رحمته، أن نجى أولياءه ومن اتبعهم من المؤمنين.
ربك: الرب هو المتولي الرعاية والتربية. وبهذه الخاتمة ختمت جميع القصص السابقة، ومع ما حدث منهم من تكذيب تختم بهذه الخاتمة الدالة على العزة والرحمة.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ومع ذلك كله فإن الله رحيم ودود يمهلهم لعلهم يرجعون ويصلحون أنفسهم، فإذا تمادُوْا في الغي واستوجبوا عذاب الله، أخذهم أخذ عزيز مقتدر. أجل (وإن ربّك لهو العزيز الرحيم).
ـ الإنسجام التام في دَعَوات الأنبياء في ختام قصص هؤلاء الأنبياء السبعة نجد أن هذه القصص تشكّلُ حلقة كاملة من حيث الدروس التربوية... وينبغي أن نلتفت إلى هذه «اللطيفة» وهي أن قصص هؤلاء الأنبياء جميعاً جاءت في سور أُخَر من القرآن أيضاً. إلاّ أنها لم تُعرَض بهذا العرض بحيث نجد أن بداية دعوتهم منسجمة، كما أنّ نهاياته ...
...وهذا الانسجام ـ قبل كل شيء ـ يدلُّ على تجلي مفهوم وحدة دعوات الأنبياء، بحيث كانوا ذوي منهج واحد وبداية واحدة ونهاية واحدة... وجميعهم كانوا معلمي مدارس الإنسانية...
.2 ـ التقوى، بداية دعوة الأنبياء جميعاً: ممّا يلفت النظر أن قسماً مهماً من قصص هؤلاء الأنبياء ـ الوارد ذكرهم في سورة الشعراء ـ ذكر في سورة هود والأعراف، إلاّ أن في بداية ذكرهم وبيان سيرتهم في أقوامهم الدعوة إلى وحدانية الله ـ عادةً ـ ويُبتدأ في تلك السور عند ذكرهم. بجملة (يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره)! إلاّ أنّه في هذه السورة (الشعراء) ـ كما لاحظنا ـ كانت بداية دعوتهم قومهم (ألا تتقون)... والحق أنّهما تعودان إلى نتيجة واحدة... لأنّه إذا لم تُوجد في الإنسان أدنى مراتب التقوى، وهي طلب الحق، فإنه لا يؤثر فيه شيء، لا الدعوة إلى التوحيد ولا غيرها...
ـ الانحرافات الاخلاقية ممّا يلفت النظر أنّ الأقوام المذكورين في هذه السورة، بالإضافة إلى انحرافهم عن أصل التوحيد نحو الشرك وعبادة الأوثان، الذي يعدّ أصلاً مشتركاً بينهم، فإنهم كانوا متورطين بانحرافات أخلاقية واجتماعية خاصّة «وكل قوم لهم انحرافات خاصّة»... إلاّ أن عقابهم كان متشابهاً إلى حدٍّ ما، وكانت نهايتهم الهلاك...