نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ} (191)

ولما كان هذا كله تأسية للداعي صلى الله عليه وسلم ، وتهديداً لمن تمادى على تكذيبه ، وترجية لمن رجع عن ذنوبه ، أشار إلى ذلك بقوله : { وإن ربك } أي المحسن إليك بكل ما يعلي شأنك ، ويوضح برهانك { لهو العزيز } فلا يعجزه أحد ، ولا ينسب في إمهال عاص إلى إهمال ولا عجز { الرحيم* } فلا يأخذ إلا بعد تجاوز الحد ، واليأس عن الرد ، مع البيان الشافي ، في الإبلاغ الوافي ، والتلطف الكافي ، وكرر الختام بهذا الكلام في هذه السورة ثماني مرات فلعل من أسراره الإشارة إلى سبق الرحمة للغضب ، لأن من السورة - المفتتحة بالكتاب القيم والعبد الكامل بالإضافة إلى الملك الأعظم اللذين هما رحمة الخالق للخلائق ، وذكر فيها مع تقديمها في الترهيب أهل الرحمة من أهل الكهف الذين قالوا { هب لنا من لدنك رحمة } وموسى والخضر عليهما السلام اللذين آتى كلا منهما من لدنه رحمة ، وذا القرنين الذي آتاه من كل شيء سبباً فأتبع سبباً وقال { هذا رحمة من ربي } - إلى سورة الرحمة بإنزال الفرقان على عبده المضاف إليه للإنذار المؤذن بصفة العزة - ثماني سور ، فكل منهما ثامنة الأخرى ، وافتتحت السورة الوالية للفرقان تفصيلاً لما في أول الكهف بقوله : { لعلك باخع نفسك } وبذكر ما على الأرض من زينة { ألم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم } كل ذلك تذكيراً بما في تلك من الكتاب الجامع بالرحمة ، وتحذيراً مما في القرآن من الإنذار الفارق بالعزة ، فلما كان ذلك كررت صفتا العز التي أذنت بها الفرقان ، والرحمة التي صرحت بها الكهف ثماني مرات بحسب ذلك العدد ، تذكيراً بهذا المعنى البديع ، وترغيباً وترهيباً وتذكيراً بأبواب الرحمة الثمانية مع ما لختم القصص بذلك من الروعة في النفس ، والهيبة في القلب ، والأنس البالغ للروح ، وقدمت هنا صفة العزة الناظرة للإنذار بالفرقان على طريق النشر المشوش مع ما اقتضى ذلك من الحال هنا وجعلت القصص سبعاً تحذيراً من أبواب النقمة السبعة - إلى غير ذلك من الأسرار التي لا تسعها الأفكار .