التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَلَقَد تَّرَكۡنَٰهَآ ءَايَةٗ فَهَلۡ مِن مُّدَّكِرٖ} (15)

والضمير المنصوب فى قوله - تعالى - : { وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً . . . } يعود إلى الفعلة المهلكة التى فعلها الله - تعالى - بقوم نوح - عليه السلام - .

أى : ولقد تركنا فعلتنا بقوم نوح ، وإهلاكنا لهم ، آية وعلامة لمن بعدهم . وعظة وعبرة لمن يعتبر ويتعظ بها .

ويؤيد هذا المعنى قوله - تعالى - : { وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرسل أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً . . . } ويصح أن يكون الضمير يعود إلى السفينة . أى : ولقد أبقينا هذه السفينة من بعد إهلاك قوم نوح ، علامة وعبرة لمن يشاهدها .

ويؤيد هذا المعنى قوله - تعالى - : { فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السفينة وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } قال القرطبى : قوله : { وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً . . . } يريد هذه الفعلة عبرة .

وقيل : أراد السفينة ، تركها آية لمن بعد قوم نوح يعتبرون بها فلا يكذبون الرسل . . .

قال قتادة : أبقاها الله - تعالى - بِبَاقِرْدَى ، من أرض الجزيرة - قرب الموصل بالعراق - لتكون عبرة وآية ، حتى نظر إليها أوائل هذه الأمة ، وكم من سفينة صارت بعدها رمادا . . .

ويبدو لنا أن الآية الكريمة تتسع للرأيين فهذه العقوبة التى أنزلها - سبحانه - بقوم نوح - عليه السلام - بقيت عبرة لمن بعدهم لينزجروا ، ويكفوا عن تكذيب الرسل ، كما أن السفينة قد أبقاها - سبحانه - بعد إغراقهم إلى الزمن الذى قدره وأراده ، لتكون - أيضا - عبرة وعظة لغيرهم .

والاستفهام فى قوله : { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } للحض على التذكر والاعتبار ، ولفظ { مُّدَّكِرٍ } أصله مذتكر من الذُّكْر الذى هو ضد النسيان ، فأبدلت التاء دالا مهملة ، وكذا الذاتل المعجمة ثم أدغمت فيها ، ومنه قوله - تعالى - : { وَقَالَ الذي نَجَا مِنْهُمَا وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ . . } أى : وتكذر بعد نسيان .

أى : ولقد تركنا ما فعلناه بقوم نوح عبرة ، فاعتبروا بذلك - أيها الناس - ، وأخلصوا لله - تعالى - العبادة والطاعة ، لتنجوا من غضبه وعقابه .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَلَقَد تَّرَكۡنَٰهَآ ءَايَةٗ فَهَلۡ مِن مُّدَّكِرٖ} (15)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ تّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مّدّكِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مّدّكِرٍ } .

يقول تعالى ذكره : ولقد تركنا السفينة التي حملنا فيها نوحا ومن كان معه آية ، يعني عِبْرة وعظة لمن بعد قوم نوح من الأمم ليعتبروا ويتعظوا ، فينتهوا عن أن يسلكوا مسلكهم في الكفر بالله ، وتكذيب رسله ، فيصيبهم مثل ما أصابهم من العقوبة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدّكِرٍ قال : أبقاها الله بباقَرْدي من أرض الجزيرة ، عبرة وآية ، حتى نظرت إليها أوائل هذه الأمة نظرا ، وكم من سفينة كانت بعدها قد صارت رمادا .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً قال : ألقى الله سفينة نوح على الجوديّ حتى أدركها أوائل هذه الأمة .

قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن مجاهد ، أن الله حين غرّق الأرض ، جعلت الجبال تشمخ ، فتواضع الجوديّ ، فرفعه الله على الجبال ، وجعل قرار السفينة عليه .

وقوله : فَهَلْ مِنْ مُدّكِرٍ يقول : فهل من ذي تذكر يتذكر ما قد فعلنا بهذه الأمة التي كفرت بربها ، وعصت رسوله نوحا ، وكذّبته فيما أتاهم به عن ربهم من النصيحة ، فيعتبر بهم ، ويحذر أن يَحِلّ به من عذاب الله بكفره بربه ، وتكذيبه رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم ، مثل الذي حلّ بهم ، فيتيب إلى التوبة ، ويراجع الطاعة . وأصل مدّكر : مفتعل من ذكر ، اجتمعت فاء الفعل ، وهي ذال ، وتاء وهي بعد الذال ، فصيرتا دالاً مشدّدة ، وكذلك تفعل العرب فيما كان أوّله ذالا يتبعها تاء الافتعال يجعلونهما جميعا دالاً مشدّدة ، فيقولون : ادّكرت ادّكارا ، وإنما هو اذتكرت اذتكارا ، وفهل من مذتكر ، ولكن قيل : ادّكرت ومدّكر لما قد وصفت ، قد ذُكر عن بعض بني أسد أنهم يقولون في ذلك مذّكر ، فيقلبون الدال ويعتبرون الدال والتاء ذالاً مشددة ، وذُكر عن الأسود بن يزيد أنه قال : قلت لعبد الله بن مسعود : فهل من مدّكر ، أو مذّكر ، فقال : أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مُذّكر » يعني بذال مشددة . وبنحو الذي قلنا في ذلك أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : فَهَلْ مِنْ مُدّكِرْ قال : المدّكر : الذي يتذكر ، وفي كلام العرب : المدّكر : المتذكر .

حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان فَهَلْ مِنْ مُدّكِرٍ قال : فهل من مذّكر .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَلَقَد تَّرَكۡنَٰهَآ ءَايَةٗ فَهَلۡ مِن مُّدَّكِرٖ} (15)

ضمير المؤنث عائد إلى { ذات ألواح ودسر } ، أي السفينة . والترك كناية عن الإِبقاء وعدم الإِزالة ، قال تعالى : { وتركنا فيها آية } في سورة الذاريات ( 37 ) ، وقال : { وتركهم في ظلمات لا يبصرون } في سورة البقرة ( 17 ) ، أي أبقينا سفينة نوح محفوظة من البِلى لتكون آية يشهدها الأمم الذين أرسلت إليهم الرسلُ متى أراد واحد من الناس رؤيتها ممن هو بجوار مكانها تأييداً للرسل وتخويفاً بأول عذاب عُذبت به الأمم أمة كذبت رسولها فكانت حجة دائمة مثل ديار ثمود .

ثم أخذت تتناقص حتى بقي منها أخشاب شهدها صدر الأمة الإسلامية فلم تضمحل حتى رآها ناس من جميع الأمم بعد نوح فتواتر خبرها بالمشاهدة تأييداً لتواتر الطوفان بالأخبار المتواترة . وقد ذكر القرآن أنها استقرت على جبل الجوديّ فمنه نزل نوح ومن معه وبقيت السفينة هنالك لا ينالها أحد ، وذلك من أسباب حفظها عن الاضمحلال . واستفاض الخبر بأن الجودي جُبيل قرب قرية تسمى ( باقِرْدَى ) بكسر القاف وسكون الراء ودال مفتوحة مقصوراً من جزيرة ابن عمر قرب المَوْصل شرقيَّ دجلة .

وفي « صحيح البخاري » قال قتادة : « لقد شَهدها صدر هذه الأمة » قال تعالى في سورة العنكبوت ( 15 ) { وجعلناها آية للعالمين } وقد تقدم ذلك مفصلاً هنالك .

والآية : الحجة . وأصل الآية الأمارة التي يصطلح عليها شخصان فأكثر { قال رب اجعل لي آية قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام } [ آل عمران : 41 ] .

وإنما قال هنا { ولقد تركناها } وقال في سورة العنكبوت ( 15 ) { وجعلناها آية للعالمين } لأن ذكرها في سورة القمر وردَ بعد ذكر كيفية صنعها وحدوث الطوفان وحمل نوح في السفينة . فأخبر بأنها أُبقيت بعد تلك الأحوال ، فالآية في بقائها ، وفي سورة العنكبوت وَرَد ذِكر السفينة ابتداء فأخبر بأن الله جعلها آية إذْ أوحى إلى نوح بصنعها ، فالآية في إيجادها وهو المعبر عنه ب { جعلناها } .

وفرع على إبقاء السفينة آية استفهام عمن يتذكر بتلك الآية وهو استفهام مستعمل في معنى التحضيض على التذكر بهذه الآية واستقصاء خبرها مثل الاستفهام في قول طرفة :

إذا القوم قالوا من فتى . . . البيت

والتحضيض موجه إلى جميع من تبلغه هذه الآيات و{ من } زائدة للدلالة على عموم الجنس في الإِثبات على الأصح من القولين .

و { مُدَّكر } أصله : مُذتَكر مفتعل من الذُكر بضم الذال ، وهو التفكر في الدليل فقلبت تاء الافتعال دالاً لتقارب مخرجيهما ، وأدغم الذال في الدال لذلك ، وقرَاءة هذه الآية مروية بخصوصها عن النبي صلى الله عليه وسلم وتقدم في سورة يوسف ( 45 ) { وادَّكَر بعد أمة } .