ثم تأخذ السورة الكريمة بعد ذلك فى السخرية منهم لغفلتهم عن هذا المصير المحتوم ، الذى سيفاجئهم بما لا يتوقعون . فيقول : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات بَل لاَّ يَشْعُرُونَ } .
والهمزة فى قوله { أَيَحْسَبُونَ } للاستفهام الإنكارى . و " ما " موصولة ، وهى اسم " أن " وخبرها جملة " نسارع لهم .
أى : أيزن هؤلاء الجاهلون . أن ما نعطيهم إياه من مال وبنين ، هو من باب المسارعة منا فى إمدادهم بالخيرات لرضانا عنهم وإكرامنا لهم ؟ كلا : ما فعلنا معهم ذلك لتكريمهم ، وإنما فعلنا ذلك معهم لاستدراجهم وامتحانهم ، ولكنهم لا يشعرون بذلك . ولا يحسون به لانطماس بصائرهم ولاستيلاء الجهل والغرور على نفوسهم .
فقوله - سبحانه - { بَل لاَّ يَشْعُرُونَ } إضراب انتقالى عن الحسبان المذكور وهو معطوف على مقدر ينسحب إليه الكلام .
أى : ما فعلنا ذلك معهم لإكرامنا إياهم كما يظنون ، بل فعلنا ما فعلنا استدارجا لهم ، ولكنهم لا يشعرون لهم ولا إحساس ، وما هم إلا كالأنعام بل هم أضل .
لذا قال بعض الصالحين : من يعص الله - تعالى - ولم ير نقصاناً فيما أعطاه - سبحانه - من الدنيا . فليعلم أنه مستدرج قد مكر به .
وشبيه بهاتين الآيتين قوله - تعالى - : { فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بهذا الحديث سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ }
وقوله : أيَحْسَبُونَ أنّما نُمِدّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينٍ يقول تعالى ذكره : أيحسب هؤلاء الأحزاب الذين فرقوا دينهم زُبُرا ، أن الذي نعطيهم في عاجل الدنيا من مال وبنين نُسارِعُ لَهُمْ يقول : نسابق لهم في خيرات الاَخرة ، ونبادر لهم فيها ؟ و «ما » من قوله : أنّمَا نُمِدّهُمْ بهِ نصب ، لأنها بمعنى «الذي » . بَلْ لا يَشْعُرُونَ يقول تعالى ذكره تكذيبا لهم : ما ذلك كذلك ، بل لا يعلمون أن إمدادي إياهم بما أمدّهم به من ذلك ، إنما هو إملاء واستدراج لهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أنّمَا نُمِدّهُمْ قال : نعطيهم ، نسارع لهم ، قال : نَزيدهم في الخير ، نُمْلي لهم ، قال : هذا لقريش .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني محمد بن عمر بن عليّ ، قال : ثني أشعث بن عبد الله ، قال : حدثنا شعبة ، عن خالد الحذّاء ، قال : قلت لعبد الرحمن بن أبي بكرة ، قول الله : نُسارِعُ لَهُمُ فِي الخَيْرَاتِ ؟ قال : يسارع لهم في الخيرات .
وكأن عبد الرحمن بن أبي بكرة وجه بقراءته ذلك كذلك ، إلى أن تأويله : يسارع لهم إمدادنا إياهم بالمال والبنين في الخيرات .
الأشبه أن تكون هذه الجملة بدل اشتمال من جملة { فَذرهم في غمرتهم حتى حين } [ المؤمنون : 54 ] باعتبار أن جملة { فذرهم } تشتمل على معنى عدم الاكتراث بما هم فيه من الأحوال التي ألْهَتهم عن النظر في دعوة الإسلام وغرتهم بأنهم بمحل الكرامة على الله بما خولهم من العزة و الترف ، وما تشتمل عليه من التوعد بأن ذلك له نهاية ينتهون إليها وأن الله أعطاهم ما هم فيه زمن النعمة استدراجاً لهم . وهذا كقوله تعالى { وذَرْني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلاً } [ المزمل : 11 ] وقوله : { لا يَغُرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل } [ آل عمران : 196 ، 197 ] .
والاستفهام في { أيحسبون } إنكاري وتوبيخ على هذا الحسبان سواء كان هذا الحسبان حاصلاً لجميع المشركين أم غير حاصل لبعض ، لأن حالهم حال من هو مظنة هذا الحسبان فينكر عليه هذا الحسبان لإزالته من نفسه أو لدفع حصوله فيها .
و { أنما } هنا كلمتان ( أن ) المؤكدة ( وما ) الموصولة وكتبتا في المصحف متصلتين كما تكتب ( إنما ) المكسورة التي هي أداة حصر لأن الرسم القديم لم يكن منضبطاً كل الضبط وحقها أن تكتب مفصولة .
والإمداد : إعطاء المدد وهو العطاء . و { من مال وبنين } بيان ل ( ما ) الموصولة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.