{ إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الأولين } أى : ما هذا الذى تنهانا عنه من التطاول فى البنيان ، ومن اتخاذ المصانع . . إلا خلق آبائنا الأولين ، ومنهجهم فى الحياة ، ونحن على آثارهم نسير وعلى منهجهم نمشي .
قال القرطبى ما ملخصه : قرأ أكثر القراء { إِلاَّ خُلُقُ الأولين } - بضم الخاء واللام - أى : عادتهم ودينهم ومذهبهم وما جرى عليه أمرهم . . .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائى إلا خلق الأولين - بفتح الخاء وإسكان اللام - أى : ما هذا الذى جئتنا به يا هود إلا اختلاق الأولين وكذبهم ، والعرب تقول : حدثنا فلان بأحاديث الخلق ، أى : بالخرافات والأحاديث المفتعلة .
وعلى كلتا القراءاتين فالآية الكريمة تصور ما كانوا عليه من تحجر وجهالة تصويرا بليغا .
وقوله : إنْ هَذَا إلاّ خُلُقُ الأوّلِينَ اختلفت القرّاء في قراءة ذلك فقرأته عامة قرّاء المدينة سوى أبي جعفر ، وعامة قرّاء الكوفة المتأخرين منهم : إنْ هَذَا إلاّ خُلُقُ الأوّلِينَ من قبلنا : وقرأ ذلك أبو جعفر ، وأبو عمرو بن العلاء : «إنْ هَذَا إلا خَلْقُ الأوّلِينَ » بفتح الخاء وتسكين اللام بمعنى : ما هذا الذي جئتنا به إلا كذب الأوّلين وأحاديثهم .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، نحو اختلاف القرّاء في قراءته ، فقال بعضهم : معناه : ما هذا إلا دين الأوّلين وعادتهم وأخلاقهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله إنْ هَذَا إلاّ خُلُقُ الأوّلِينَ يقول : دين الأوّلين .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة قوله إنْ هَذَا إلاّ خُلُقُ الأوّلِينَ يقول : هكذا خِلْقة الأوّلين ، وهكذا كانوا يحيون ويموتون .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ما هذا إلا كذب الأوّلين وأساطيرهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس إنْ هَذَا إلاّ خُلُقُ الأوّلِينَ قال : أساطير الأوّلين .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله إلاّ خُلُقُ الأوّلِينَ قال : كذبهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله إنْ هَذَا إلاّ خُلُقُ الأوّلِينَ قال : إن هذا إلا أمر الأوّلين وأساطير الأوّلين اكتتبها فهي تُملى عليه بكرة وأصيلاً .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، عن علقمة ، عن ابن مسعود : إنْ هَذَا إلاّ خُلُقُ الأوّلِينَ يقول : إن هذا إلا اختلاق الأوّلين .
قال : ثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا داود ، عن الشعبيّ ، عن علقمة ، عن عبد الله ، أنه كان يقرأ إنْ هَذَا إلاّ خُلُقُ الأوّلِينَ ويقول شيء اختلقوه .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن داود ، عن الشعبيّ ، قال : قال علقمة إنْ هَذَا إلاّ خُلُقُ الأوّلِينَ قال : اختلاق الأوّلين .
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب : قراءة من قرأ إنْ هَذَا إلاّ خُلُقُ الأوّلِينَ بضمّ الخاء واللام ، بمعنى : إن هذا إلا عادة الأوّلين ودينهم ، كما قال ابن عباس ، لأنهم إنما عُوتبوا على البنيان الذي كانوا يتخذونه ، وبطشهم بالناس بطش الجبابرة ، وقلة شكرهم ربهم فيما أنعم عليهم ، فأجابوا نبيهم بأنهم يفعلون ما يفعلون من ذلك ، احتذاءً منهم سنة من قبلهم من الأمم ، واقتفاءً منهم آثارهم ، فقالوا : ما هذا الذي نفعله إلا خُلق الأوّلين ، يَعنون بالخُلق : عادةَ الأوّلين . ويزيد ذلك بيانا وتصحيحا لما اخترنا من القراءة والتأويل ، قولهُم : وَما نَحْنُ بِمُعَذّبِينَ لأنهم لو كانوا لا يُقرّون بأن لهم ربا يقدر على تعذيبهم ، ما قالوا وَما نَحْنُ بِمَعَذّبِينَ بل كانوا يقولون : إنْ هذا الذي جئتنا به يا هود إلا خلق الأوّلين ، وما لنا من معذّب يعذّبنا ، ولكنهم كانوا مقرّين بالصانع ، ويعبدون الاَلهة ، على نحو ما كان مشركو العرب يعبدونها ، ويقولون إنّها تُقَرّبُنا إلى اللّهِ زُلْفَى ، فلذلك قالوا لهود وهم منكرون نبوّته : سَوَاءٌ عَلَيْنا أوَعَظْتَ أمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الَواعِظِينَ ثم قالوا له : ما هذا الذي نفعله إلا عادة من قبلنا وأخلاقهم ، وما الله معذّبنا عليه ، كما أخبرنا تعالى ذكره عن الأمم الخالية قبلنا ، أنهم كانوا يقولون لرسلهم : إنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمّةٍ وَإنّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ .
{ إن هذا إلا خلق الأولين } ما هذا الذي جئتنا به إلا كذب الأولين ، أو ما خلقنا هذا إلا خلقهم نحيا ونموت مثلهم ولا بعث ولا حساب ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة " خلق الأولين " بضمتين أي ما هذا الذي جئت به إلا عادة الأولين كانوا يلفقون مثله ، أو ما هذا الذي نحن عليه من الدين إلا خلق الأولين وعادتهم ونحن بهم مقتدون ، أو ما هذا الذي نحن عليه من الحياة والموت إلا عادة قديمة لم تزل الناس عليها .
ثم قالوا { إن هذا إلا خلق الأولين } ، واختلفت القراءة في ذلك ، فقرأ نافع وعاصم وحمزة وابن عامر «خلُق » بضم اللام فالإشارة بهذا إلى دينهم وعبادتهم وتخرقهم في المصانع ، أي هذا الذي نحن عليه خلق الناس وعادتهم وما بعد ذلك بعث ولا تعذيب كما تزعم أنت ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي وأبو قلابة «خُلْق الأولين » بضم الخاء وسكون اللام ورواها الأصمعي عن نافع ، وقرأ أبو جعفر وأبو عمرو «وخَلْق الأولين » بفتح الخاء وسكون اللام وهي قراءة ابن مسعود وعلقمة والحسن ، وهذا يحتمل وجهين : أحدهما وما هذا الذي تزعمه إلا اختلاق الأولين من الكذبة قبلك وكذبهم فأنت على منهاجهم ، والثاني أن يريدوا وما هذه البنية التي نحن عليها إلا البنية التي عليها الأولون حياة وموت وما ثم بعث ولا تعذيب ، وكل معنى مما ذكرته تحتمله كل قراءة ، وروى علقمة عن ابن مسعود «إلا اختلاق الأولين » وباقي الآية قد مضى تفسيره .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن هذا إلا خلق الأولين} يعني: ما هذا العذاب الذي يقول هود إلا أحاديث الأولين.
- سئل الشافعي: هل تسمع شهادة الخالق؟ قال: لا، ولا روايته. والخالق: الكاذب، قال الله تعالى: {إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ اَلاَوَّلِينَ}. (مناقب الإمام الشافعي ص: 221.)
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"إنْ هَذَا إلاّ خُلُقُ الأوّلِينَ" اختلفت القرّاء في قراءة ذلك؛ فقرأته عامة قرّاء المدينة سوى أبي جعفر، وعامة قرّاء الكوفة المتأخرين منهم: "إنْ هَذَا إلاّ خُلُقُ الأوّلِينَ "من قبلنا: وقرأ ذلك أبو جعفر، وأبو عمرو بن العلاء: «إنْ هَذَا إلا خَلْقُ الأوّلِينَ» (بفتح الخاء وتسكين اللام) بمعنى: ما هذا الذي جئتنا به إلا كذب الأوّلين وأحاديثهم.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، نحو اختلاف القرّاء في قراءته؛ فقال بعضهم: معناه: ما هذا إلا دين الأوّلين وعادتهم وأخلاقهم... عن قَتادة قوله "إنْ هَذَا إلاّ خُلُقُ الأوّلِينَ" يقول: هكذا خِلْقة الأوّلين، وهكذا كانوا يحيون ويموتون.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ما هذا إلا كذب الأوّلين وأساطيرهم... عن ابن مسعود: "إنْ هَذَا إلاّ خُلُقُ الأوّلِينَ" يقول: إن هذا إلا اختلاق الأوّلين...
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب: قراءة من قرأ "إنْ هَذَا إلاّ خُلُقُ الأوّلِينَ" (بضمّ الخاء واللام)، بمعنى: إن هذا إلا عادة الأوّلين ودينهم... لأنهم إنما عُوتبوا على البنيان الذي كانوا يتخذونه، وبطشهم بالناس بطش الجبابرة، وقلة شكرهم ربهم فيما أنعم عليهم، فأجابوا نبيهم بأنهم يفعلون ما يفعلون من ذلك، احتذاءً منهم سنة من قبلهم من الأمم، واقتفاءً منهم آثارهم، فقالوا: ما هذا الذي نفعله إلا خُلق الأوّلين، يَعنون بالخُلق: عادةَ الأوّلين. ويزيد ذلك بيانا وتصحيحا لما اخترنا من القراءة والتأويل، قولهُم: "وَما نَحْنُ بِمُعَذّبِينَ" لأنهم لو كانوا لا يُقرّون بأن لهم ربا يقدر على تعذيبهم، ما قالوا "وَما نَحْنُ بِمَعَذّبِينَ" بل كانوا يقولون: إن هذا الذي جئتنا به يا هود إلا خلق الأوّلين، وما لنا من معذّب يعذّبنا، ولكنهم كانوا مقرّين بالصانع، ويعبدون الآلهة، على نحو ما كان مشركو العرب يعبدونها، ويقولون إنّها تُقَرّبُنا إلى اللّهِ زُلْفَى، فلذلك قالوا لهود وهم منكرون نبوّته: "سَوَاءٌ عَلَيْنا أوَعَظْتَ أمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الَواعِظِينَ" ثم قالوا له: ما هذا الذي نفعله إلا عادة من قبلنا وأخلاقهم، وما الله معذّبنا عليه، كما أخبرنا تعالى ذكره عن الأمم الخالية قبلنا، أنهم كانوا يقولون لرسلهم: "إنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمّةٍ وَإنّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ".
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قيل: فيه وجوه: أحدهما: أي ما هذا الذي نحن عليه إلا دين الأولين، وما أوتيت أنت، وتدعونا إليه، هو حادث بديع، والخلق يجوز أن يكنى به عن الدين كقوله: {لا تبديل لخلق الله} [الروم: 30] أي لدين الله...ومن قرأ {خُلق الأولين} (بضم الخاء) أراد عادتهم وشأنهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
من قرأ: خلق الأوّلين بالفتح، فمعناه: أنّ ما جئت به اختلاق الأوّلين وتخرّصهم، كما قالوا: أساطير الأَوّلين. أو ما خلقنا هذا إلا خلق القرون الخالية، نحيا كما حيوا، ونموت كما ماتوا، ولا بعث ولا حساب. ومن قرأ: «خلق»، بضمتين، وبواحدة، فمعناه: ما هذا الذي نحن عليه من الدين إلا خلق الأولين وعادتهم، كانوا يدينونه ويعتقدونه، ونحن بهم مقتدون. أو ما هذا الذي نحن عليه من الحياة والموت إلا عادة لم يزل عليها الناس في قديم الدهر أو ما هذا الذي جئت به من الكذب إلا عادة الأولين، كانوا يلفقون مثله ويسطرونه.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
ثم ذكروا السبب في أن الوعظ وعدمه سواء بقولهم: {إن هذا إلا خلق الأولين * وما نحن بمعذبين} أي ما هذا الدين الذي نحن عليه إلا دين الأولين من الآباء والأجداد، فنحن سالكون سبيلهم، نعيش كما عاشوا ونموت كما ماتوا، ولا بعث ولا معاد، ولا ثواب ولا عقاب، ولا جنة ولا نار.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{خُلُقُ} بضمتين، فهو السجية المتمكنة في النفس باعثة على عمل يناسبها من خير أو شر وقد فُسّر بالقوى النفسية، وهو تفسير قاصر فيشمل طبائع الخير وطبائع الشر، ولذلك لا يُعرَف أحدُ النوعين من اللفظ إلا بقيد يضم إليه فيقال: خُلُق حسَن، ويقال في ضده: سوء خُلُق، أو خُلُق ذميم، قال تعالى: {وإنك لعلى خُلُق عظيم} [القلم: 4]...
وأما على قراءة الفريق الثاني فالخَلْق بفتح الخاء وسكون اللام مصدر هو الإنشاء والتكوين، والخلق أيضاً مصدر خلق، إذا كذب في خبره، ومنه قوله تعالى: {وتخلُقون إفكاً}..وذلك أن الكاذب يخلُق خبراً لم يقع. فيجوز أن يكون المعنى أن ما تزعمه من الرسالة عن الله كذب وما تخبرنا من البعث اختلاق..ويجوز أن يكون المعنى أنَّ حياتنا كحياة الأولين نحيا ثم نموت..