ثم بين - سبحانه - حكمه العادل فيهم ، وصور أحوالهم البائسة تصويرا تقشعر من هوله الجلود ، وحكى جانبا من حسراتهم خلال تساؤلهم فيما بينهم فقال - تعالى - :
قوله - تعالى - : { احشروا } من الحشر بمعنى الجمع مع السوق يقال : حشر القائد جنده حشرا - من باب قتل - إذا جمعهم . والمحشر : المكان الذى يجتمع فيه الخلائق .
والمراد بالذين ظلموا : المشركون الذين أشركوا مع الله - تعالى - آلهة أخرى فى العبادة ومن الآيات التى وردت وأطلق فيها الظلم على الشرك والكفر ، قوله - تعالى - : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } وقوله - سبحانه - { والكافرون هُمُ الظالمون } وقد ثبت فى الحديث الصحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم فسر الظلم بالشرك فى قوله - تعالى - : { الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أولئك لَهُمُ الأمن وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } والمراد بأزواجهم : أشباههم ، ونظراؤهم وأمثالهم فى الشرك والكفر ، وهذا التفسير مأثور عن عدد من الصحابة والتابعين ، منهم عمر بن الخطاب ، والنعمان بن بشير ، وابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ومجاهد ، وأبو العالية .
وقيل المراد بأزواجهم . قرناؤهم من الشياطين ، بأن يحشر كل كافر مع شيطانه .
وقيل المراد بهم : نساؤهم اللائى كن على دينهم ، بأن كن مشركات فى الدنيا كأزواجهن ، ويبدو لنا أن جميع من ذكروا محشور . والعياذ بالله . إلى جهنم . إلا أن تفسير الأزواج هنا : بالأشباه والنظائر والأصناف أولى ، خصوصا وأن إطلاق الأزواج على الأصناف والأشباه جاء كثيرا فى القرآن الكريم ومن ذلك قوله - تعالى - : { سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } والمراد بما كانوا يعبدونه : الآلهة الباطلة التى كانوا فى الدنيا يعبدونها من دون الله ، كالأصنام والأوثان .
والأمر من الله - تعالى - للملائكة فى هذا اليوم الشديد ، وهو يوم القيامة .
أى : احشروا واجمعوا الذين كانوا مشركين فى الدنيا ، واجمعوا معهم كل من كان على شاكلتهم فى الكفر والضلال ، ثم اجمعوا معهم - أيضا - آلهتهم الباطلة التى عبدوها من دون الله - تعالى - ثم ألقوا بها جميعا فى جهنم ، ليذوقوا سعيرها وحرها .
وفى حشر الآلهة الباطلة مع عابديها ، زيادة تحسؤر وتخجيل لهؤلاء العابدين لأنهم رأوا بأعينهم بطلان وخسران ما كانوا يفعلونه فى الدنيا .
القول في تأويل قوله تعالى : { احْشُرُواْ الّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَىَ صِرَاطِ الْجَحِيمِ } .
وفي هذا الكلام متروك استغني بدلالة ما ذُكر عما ترك ، وهو : فيقال : احشروا الذين ظلموا ، ومعنى ذلك اجمعوا الذين كفروا بالله في الدنيا وعصوه وأزواجهم وأشياعهم على ما كانوا عليه من الكفر بالله وما كانوا يعبدون من دون الله من الاَلهة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن سماك بن حرب ، عن النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب احْشُرُوا الّذِينَ ظَلَمُوا وأزْوَاجَهُمْ قال : ضُرَباءهم .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس احْشُرُوا الّذِينَ ظَلَمُوا وأزْوَاجَهُمْ يقول : نظراءهم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : احْشَرُوا الّذِينَ ظَلَمُوا وأزْوَاجَهُمْ يعني : أتباعهم ، ومن أشبههم من الظلمة .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن داود ، قال : سألت أبا العالية ، عن قول الله : احْشُرُوا الّذِينَ ظَلَمُوا وأزْوَاجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ قال : الذين ظلموا وأشياعهم .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن أبي العالية ، أنه قال في هذه الاَية احْشُرُوا الّذِينَ ظَلَمُوا وأزْوَاجَهُمْ قال : وأشياعهم .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا داود ، عن أبي العالية مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : احْشُرُوا الّذِينَ ظَلَمُوا وأزْوَاجَهُمْ : أي وأشياعهم الكفار مع الكفار .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدّيّ ، في قوله : احْشُرُوا الّذِينَ ظَلَمُوا وأزْوَاجَهُمْ قال : وأشباههم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : احْشُرُوا الّذِينَ ظَلَمُوا وأزْوَاجَهُمْ قال : أزواجهم في الأعمال ، وقرأ : وكُنْتُمْ أزْوَاجا ثَلاثَةً فَأصحَابُ المَيْمَنَةِ ما أصحَابُ المَيْمَنَةِ وأصحَابُ المَشأَمَةِ ما أصحَابُ المَشْأمةِ وَالسّابِقُونَ السّابِقُونَ فالسابقون زوج وأصحاب الميمنة زوج ، وأصحاب الشمال زوج ، قال : كلّ من كان من هذا حشره الله معه . وقرأ : وَإذَا النّفُوسُ زُوّجَتْ قال : زوّجت على الأعمال ، لكل واحد من هؤلاء زوج ، زوّج الله بعض هؤلاء بعضا زوّج أصحاب اليمين أصحاب اليمين ، وأصحاب الْمشأمة أصحابَ المشأمة ، والسابقين السابقين ، قال : فهذا قوله : احْشُرُوا الّذِينَ ظَلَمُوا وأزْوَاجَهُمْقال : أزواج الأعمال التي زوّجهن الله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وأزْوَاجَهُمْ قال : أمثالهم .
وقوله : وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ فاهْدُوهُمْ إلى صِراطِ الجَحِيمِ يقول تعالى ذكره : احشروا هؤلاء المشركين وآلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله ، فوجّهوهم إلى طريق الجحيم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ الأصنام .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : فاهدوهمْ إلى صِراطِ الجَحِيمِ يقول : وجّهوهم ، وقيل : إن الجحيم الباب الرابع من أبواب النار .
وقوله تعالى : { وأزواجهم } معناه وأنواعهم وضرباؤهم ، قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن عباس وقتادة ومنه قوله تعالى : { وكنتم أزواجاً ثلاثة }{[1]} [ الواقعة : 7 ] ، وقوله تعالى : { وإذا النفوس زوجت }{[2]} [ التكوير : 7 ] أي نوعت ، وروي أنه يضم عند هذا الأمر كل شكل وصاحبه من الكفرة إلى شكله وصاحبه ومعهم { ما كانوا يعبدون من دون الله } من آدمي رضي بذلك ومن صنم ووثن توبيخاً لهم وإظهاراً لسوء حالهم ، وقال الحسن : المعنى وأزواجهم المشركات من النساء وروي ذلك عن ابن عباس ورجحه الرماني .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{احشروا الذين ظلموا}: الذين أشركوا من بني آدم.
{وأزواجهم} قرناءهم من الشياطين الذين أظلوهم وكل كافر مع شيطان في سلسلة واحدة {وما كانوا يعبدون}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وفي هذا الكلام متروك استغني بدلالة ما ذُكر عما ترك، وهو: فيقال:"احشروا الذين ظلموا"، ومعنى ذلك: اجمعوا الذين كفروا بالله في الدنيا وعصوه وأزواجهم وأشياعهم على ما كانوا عليه من الكفر بالله وما كانوا يعبدون من دون الله من الآلهة... عن عمر بن الخطاب "احْشُرُوا الّذِينَ ظَلَمُوا وأزْوَاجَهُمْ "قال: ضُرَباءهم...
عن ابن عباس "احْشُرُوا الّذِينَ ظَلَمُوا وأزْوَاجَهُمْ "يقول: نظراءهم... يعني: أتباعهم، ومن أشبههم من الظلمة... عن مجاهد، قوله: "وأزْوَاجَهُمْ" قال: أمثالهم.
وقوله: "وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ فاهْدُوهُمْ إلى صِراطِ الجَحِيمِ" يقول تعالى ذكره: احشروا هؤلاء المشركين وآلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله، فوجّهوهم إلى طريق الجحيم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يأمر الملائكة أن يجمعوا بين من كانوا يجتمعون في هذه الدنيا، ويستحبون الاجتماع معهم، أن يجمعوا في عذاب الآخرة على ما كانوا يستحبّون الاجتماع في الملاهي والطرب في هذه الدنيا، ويجتمعون على ذلك، فعلى ذلك تجمع بين أولئك وبين قرنائهم جهنم، ويقرن بعضهم إلى بعض في العذاب كقوله: {ومن يعشُ عن ذكر الرحمان نُقيّض له شيطانا فهو له قرين} [الزخرف: 36].
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أراد بأزواجهم...من أعانهم على ظلمهم بقليل أو كثير.. وكذلك في هذه الطريقة: من أعان صاحبَ فترة في فترته، أو صاحب زَلة على زلته -كان مُشركاً له في عقوبته، واستحقاق طرده وإهانته.
البحث الثالث: أن الله أمر الملائكة بحشر ثلاثة أشياء: الظالمين، وأزواجهم، والأشياء التي كانوا يعبدونها، وفيه فوائد:
الفائدة الأولى: أنه تعالى قال: {احشروا الذين ظلموا} ثم ذكر من صفات الذين ظلموا كونهم عابدين لغير الله؛ وهذا يدل على أن الظالم المطلق هو الكافر وذلك يدل على أن كل وعيد ورد في حق الظالم فهو مصروف إلى الكفار، ومما يؤكد هذا قوله تعالى: {والكافرون هم الظالمون}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فبينما هم في هذا التأسف، إذ برز النداء بما يهدئ قواهم، ويقر قلوبهم وكلاهم، لمن لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون من الملائكة الشداد الغلاظ بإذلالهم وإصغارهم، ولبيان السرعة لذلك من غير تنفيس أسقط ما يدل على النداء من نحو قوله: فقيل للملائكة، أو فقلنا، أو فبرز النداء من جانب سلطاننا -ونحو هذا: {احشروا} أي اجمعوا بكره وصغار وذل، أيها الموكلون بالعباد من الأجناد، وأظهر تعريفاً بوصفهم الموجب لحتفهم فقال: {الذين ظلموا} أي بما كانوا فيه في الدنيا بوضع الأشياء في غير محالها من الخبط الذي لا يفعله إلا من هو في أشد الظلام.
{وما كانوا} أي بما دعتهم إليه طباعاتهم المعوجة.
{يعبدون} أي مواظبين على عبادته رجاء منفعته تحقيقاً لخسارتهم بتحقق اعتمادهم على غير معتمد، وهو يعم المعبود حقيقة أو مجازاً بالتزيين.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الحشر: جمع المتفرقين إلى مكان واحد، وذكر الأزواج إبلاغ في الوعيد والإِنذار؛ لئلا يحسبوا أن النساء المشركات لا تبعة عليهن، وذلك مثل تخصيصهن بالذكر في قوله تعالى: {الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} في سورة [البقرة: 178].
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ذكر الأزواج بالإضافة إليهم، على أساس ما هو الغالب من انحراف المرأة تبعاً لانحراف الرجل، أو انحراف العائلة تبعاً لانحراف رأسها، ما يجعل الموقف واحداً والمصير مشتركاً.