قوله تعالى : { وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون } في اتصال الكلام وجهان : ( أحدهما ) متصل بقوله تعالى : { فذرهم } وذلك لأنه يدل على عدم جواز القتال ، وقد قيل إنه نازل قبل شرع القتال ، وحينئذ كأنه قال فذرهم ولا تذرهم مطلقا من غير قتال ، بل لهم قبل يوم القيامة عذاب يوم بدر حيث تؤمر بقتالهم ، فيكون بيانا وعدا ينسخ فذرهم بالعذاب يوم بدر ( ثانيهما ) هو متصل بقوله تعالى : { لا يغني } وذلك لأنه لما بين أن كيدهم لا يغني عنهم قال ولا يقتصر على عدم الإغناء بل لهم مع أن كيدهم لا يغني ويل آخر وهو العذاب المعد لهم ، ولو قال لا يغني عنهم كيدهم كان يوهم أنه لا ينفع ولكن لا يضر ولما قال مع ذلك { وإن للذين ظلموا عذابا } زال ذلك ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الذين ظلموا هم أهل مكة إن قلنا العذاب هو عذاب يوم بدر ، وإن قلنا العذاب هو عذاب القبر فالذين ظلموا عام في كل ظالم .
المسألة الثانية : ما المراد من الظلم هاهنا ؟ نقول فيه وجوه : ( الأول ) هو كيدهم نبيهم ، ( والثاني ) عبادتهم الأوثان ، ( والثالث ) كفرهم وهذا مناسب للوجه الثاني .
المسألة الثالثة : دون ذلك ، على قول أكثر المفسرين معناه قبل ويؤيده قوله تعالى : { ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر } ويحتمل وجهين آخرين ( أحدهما ) دون ذلك ، أي أقل من ذلك في الدوام والشدة يقال الضرب دون القتل في الإيلام ، ولا شك أن عذاب الدنيا دون عذاب الآخرة على هذا المعنى ، وعلى هذا ففيه فائدة التنبيه على عذاب الآخرة العظيم وذلك لأنه إذا قال عذابا دون ذلك أي قتلا وعذابا في القبر فيتفكر المتفكر ويقول ما يكون القتل دونه لا يكون إلا عظيما ، فإن قيل فهذا المعنى لا يمكن أن يقال في قوله تعالى : { ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر } قلنا نسلم ذلك ولكن لا مانع من أن يكون المراد هاهنا هذا الثاني على طريقة قول القائل : تحت لجاجك مفاسد ودون غرضك متاعب ، وبيانه هو أنهم لما عبدوا غير الله ظلموا أنفسهم حيث وضعوها في غير موضعها الذي خلقت له فقيل لهم إن لكم دون ذلك الظلم عذابا .
المسألة الرابعة : { ذلك } إشارة إلى ماذا ؟ نقول الظاهر أنه إشارة إلى اليوم وفيه وجهان آخران ( أحدهما ) في قوله { يصعقون } وقوله { يغني عنهم } إشارة إلى عذاب واقع فقوله ذلك إشارة إليه ، ويمكن أن يقال قد تقدم قوله { إن عذاب ربك لواقع } وقوله { دون ذلك } ، أي دون ذلك العذاب ( ثانيهما ) { دون ذلك } ، أي كيدهم فذلك إشارة إلى الكيد وقد بينا وجهه في المثال الذي مثلنا وهو قول القائل : تحت لجاجك حرمانك ، والله أعلم .
المسألة الخامسة : { ولكن أكثرهم لا يعلمون } ذكرنا فيه وجوها : ( أحدها ) أنه جرى على عادة العرب حيث تعبر عن الكل بالأكثر كما قال تعالى : { أكثرهم بهم مؤمنون } ثم إن الله تعالى تكلم على تلك العادة ليعلم أن الله استحسنها من المتكلم حيث يكون ذلك بعيدا عن الخلف ( ثانيها ) منهم من آمن فلم يكن ممن لا يعلم ( ثالثها ) هم في أكثر الأحوال لم يعلموا وفي بعض الأحوال علموا وأقله أنهم علموا حال الكشف وإن لم ينفعهم .
المسألة السادسة : مفعول { لا يعلمون } جاز أن يكون هو ما تقدم من الأمر : وهو أن لهم عذابا دون ذلك ، وجاز أن لا يكون له مفعول أصلا ، فيكون المراد أكثرهم غافلون جاهلون .
عذابا دون ذلك : عذابا في الدنيا قبل عذاب الآخرة ، مثل الجوع والقحط سبع سنين ، أو القتل يوم بدر ، أو عذاب القبر .
ولكن أكثرهم لا يعلمون : أن العذاب نازل بهم في الدنيا قبل الآخرة .
47- { وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } .
وإن لكل الظالمين عذابا قبل يوم القيامة ، ومنهم كفار مكة ، فلهم عذاب في القبر أو عذاب يوم بدر ، أو ما أنزل الله بهم من مجاعة وحاجة ، أو ما أصابهم من هزائم وخزي وهوان ، حتى ذلّ الشرك وأهله ، وانتصر الإسلام وأهله ، ففُتحت مكة والطائف ، وعمّ الإسلام بلاد العرب ، وأخذ طريقه إلى الشرق والغرب والشمال والجنوب .
وهكذا نجد أن العذاب ينتظرهم يوم القيامة ، وقبل يوم القيامة ، ولكنهم لاهون غافلون ، لا يعلمون هول ما ينتظرهم ، وبعضهم يعلم غير أنه يُصر على الكفر والضلال عنادا وجحودا .
والمراد بالأكثر الكلّ ، على عادة العرب حيث تعبّر عن الكل بالأكثر ، أو هم في أكثر أحوالهم لم يعلموا .
ونظير الآية قوله تعالى : { ولَنذيقنّهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون } . ( السجدة : 21 ) .
والمراد أن الكفار لا يعتبرون ولا يتعظون ، ولو كشف عنهم البلاء لعادوا إلى أسوأ ما كانوا عليه .
قال تعالى : { ولو رُدّوا لعادوا لِما نُهوا عنه وإنهم لكاذبون } ( الأنعام : 28 )
{ وإن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك } : أي وإن لهؤلاء المشركين الظلمة عذاباً في الدنيا دون عذاب يوم القيامة وهو عذاب القحط سبع سنين وعذاب القتل في بدر .
{ ولكن أكثرهم لا يعلمون } : أي أن العذاب نازلهم بهم في الدنيا قبل يوم القيامة .
وقوله تعالى : { وإن للذين ظلموا } أي أنفسهم أي بالكفر والتكذيب والشرك والمعاصي عذاباً دون ذلك المذكور من عذاب يوم القيامة وهو ما أصابهم به من سِنِي القحط والمجاعة وما أنزله بهم من هزيمة في بدر حيث قتل صناديدهم وذلوا وأهينوا ولكن أكثرهم لا يعلمون ذلك ، ولو علموا لما أصروا على العناد والكفر .