قوله تعالى : { أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين } وهو أيضا تتميم للدليل ، فإن من لا يكون خازنا ولا كاتبا قد يطلع على الأمر بالسماع من الخازن أو الكاتب ، فقال أنتم لستم بخزنة ولا كتبة ولا اجتمعتم بهم ، لأنهم ملائكة ولا صعود لكم إليهم ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : المقصود نفي الصعود ، ولا يلزم من نفي السلم لهم نفي الصعود ، فما الجواب عنه ؟ نقول النفي أبلغ من نفي الصعود ، وهو نفي الاستماع وآخر الآية شامل للكل ، قال تعالى : { فليأت مستمعهم بسلطان مبين } .
المسألة الثانية : السلم لا يستمع فيه ، وإنما يستمع عليه ، فما الجواب ؟ نقول من وجهين : ( أحدهما ) ما ذكره الزمخشري أن المراد { يستمعون } صاعدين فيه ( وثانيهما ) ما ذكره الواحدي أن في بمعنى على ، كما في قوله تعالى : { ولأصلبنكم في جذوع النخل } أي جذوع النخل ، وكلاهما ضعيف لما فيه من الإضمار والتغيير .
المسألة الثالثة : لم ترك ذكر مفعول { يستمعون } وماذا هو ؟ نقول فيه وجوه : ( أحدها ) المستمع هو الوحي ، أي هل لهم سلم يستمعون فيه الوحي ( ثانيها ) يستمعون ما يقولون من أنه شاعر ، وأن لله شريكا ، وأن الحشر لا يكون ( ثالثها ) ترك المفعول رأسا ، كأنه يقول : هل لهم قوة الاستماع من السماء حتى يعلموا أنه ليس برسول ، وكلامه ليس بمرسل .
المسألة الرابعة : قال : { فليأت مستمعهم } ولم يقل فليأتوا ، كما قال تعالى : { فليأتوا بحديث مثله } نقول طلب منهم ما يكون أهون على تقدير صدقهم ، ليكون اجتماعهم عليه أدل على بطلان قولهم ، فقال هناك { فليأتوا } أي اجتمعوا عليه وتعاونوا ، وأتوا بمثله ، فإن ذلك عند الاجتماع أهون ، وأما الارتقاء في السلم بالاجتماع ( فإنه ) متعذر لأنه لا يرتقي إلا واحد بعد واحد ، ولا يحصل في الدرجة العليا إلا واحد فقال : { فليأت } ذلك الواحد الذي كان أشد رقيا بما سمعه .
المسألة الخامسة : قوله { بسلطان مبين } ما المراد به ؟ نقول هو إشارة إلى لطيفة ، وهي أنه لو طلب منهم ما سمعوه ، وقيل لهم { فليأت مستمعهم } بما سمع لكان لواحد أن يقول : أنا سمعت كذا وكذا فيفتري كذبا ، فقال لا بل الواجب أن يأتي بدليل يدل عليه .
ثم يهبط بهم درجة أخرى فيسألهم إن كانت لهم وسيلة للإستماع إلى مصدر التنزيل :
( أم لهم سلم يستمعون فيه ? فليأت مستمعهم بسلطان مبين ) .
إن محمدا [ صلى الله عليه وسلم ] يقول لهم : إنه رسول يوحى إليه ، وإن هذا القرآن يتنزل عليه من الملأ الأعلى . وهم يكذبونه فيما يقول . فهل لهم سلم يستمعون فيه ، فيعلموا أن محمدا لا يوحى إليه ، وأن الحق غير ما يقول ? : ( فليأت مستمعهم بسلطان مبين ) . أي ببرهان قوي يحمل في ذاته سلطانا على النفوس يلجئها إلى التصديق . وفي هذا تلميح إلى سلطان القرآن الذي يطالعهم في آياته وحججه ، وهم يكابرون فيها ويعاندون !
سُلّم : مرتقى ومصعد إلى السماء .
بسلطان مبين : بحجة واضحة تصدِّق استماعه .
38- { أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ } .
إن محمدا صلى الله عليه وسلم يتلقى وحي السماء ، وينزل جبريل عليه بالوحي غضا طريّا ، والقرآن له سلطان على النفوس وهيمنة وإعجاز ، وسرّ يشعر به صاحب الفطرة السليمة .
فهل هؤلاء الكفار يملكون مثل ذلك ؟ هل لهم سُلّم منصوب إلى السماء ، أو مرقأة يطّلعون بها إلى الملأ الأعلى ، ويستمعون إلى كلام الملائكة وما يوحى إليهم ، ويطلعون على علم الغيب ؟
إن كانوا يملكون ذلك فليأتوا بدليل واضح ، وحجة بينة ، كما أتى محمد صلى الله عليه وسلم بالوحي الذي عجزوا عن محاكاته ، ولزمتهم الحجة .
{ المسيطرون أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ } هو ما يتوصل به إلى الأمكنة العالية فيرجى به السلامة ثم جعل اسماً لكل ما يتوصل به إلى شيء رفيع كالسبب أي أم لهم سلم منصوب إلى السماء .
{ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ } أي صاعدين فيه على أن الجار والمجرور متعلق بكون خاص محذوف وقع حالاً والظرفية على حقيقتها ، وقيل : هو متعلق بيستمعون على تضمينه معنى الصعود .
وقال أبو حيان : أي يستمعون عليه أو منه إذ حروف الجر قد يسدّ بعضها مسدّ بعض ومفعول { يَسْتَمِعُونَ } محذوف أي كلام الله تعالى ، قيل : ولو نزل منزلة اللازم جاز { فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بسلطان مُّبِينٍ } أي بحجة واضحة تصدق استماعه .
{ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ } أي : ألهم اطلاع على الغيب ، واستماع له بين الملأ الأعلى ، فيخبرون عن أمور لا يعلمها غيرهم ؟
{ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ } المدعي لذلك { بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ } وأنى له ذلك ؟
والله تعالى عالم الغيب والشهادة ، فلا يظهر على غيبه [ أحدا ]{[886]} إلا من ارتضى من رسول يخبره بما أراد من علمه .
وإذا كان محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل وأعلمهم وإمامهم ، وهو المخبر بما أخبر به ، من توحيد الله ، ووعده ، ووعيده ، وغير ذلك من أخباره الصادقة ، والمكذبون هم أهل الجهل والضلال والغي والعناد ، فأي المخبرين أحق بقبول خبره ؟ خصوصا والرسول صلى الله عليه وسلم قد أقام من الأدلة والبراهين على ما أخبر به ، ما يوجب أن يكون خبره{[887]} عين اليقين وأكمل الصدق ، وهم لم يقيموا على ما ادعوه شبهة ، فضلا عن إقامة حجة .