مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِلَّا عَجُوزٗا فِي ٱلۡغَٰبِرِينَ} (171)

{ إلا عجوزا في الغابرين } فإن قيل : { في الغابرين } صفة لها كأنه قيل إلا عجوزا غابرة ، ولم يكن الغبور صفتها وقت تنجيتهم جوابه : معناه إلا عجوزا مقدرا غبورها ، قيل إنها هلكت مع من خرج من القرية بما أمطر عليهم من الحجارة . قال القاضي عبد الجبار في تفسيره في قوله تعالى : { وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم } دلالة على بطلان الجبر من جهات . أحدها : أنه لا يقال تذرون إلا مع القدرة على خلافه ، ولذلك لا يقال للمرء لم تذر الصعود إلى السماء ، كما يقال له لم تذر الدخول والخروج . وثانيها : أنه قال : { ما خلق لكم } ولو كان خلق الفعل لله تعالى لكان الذي خلق لهم ما خلقه فيهم وأوجبه لا ما لم يفعلوه . وثالثها : قوله تعالى : { بل أنتم قوم عادون } فإن كان تعالى خلق فيهم ما كانوا يعملون ، فكيف ينسبون إلى أنهم تعدوا ، وهل يقال للأسود إنك متعد في لونك ؟ فنقول حاصل هذه الوجوه يرجع إلى أن العبد لو لم يكن موجدا الأفعال نفسه لما توجه المدح والذم والأمر والنهي عليه ، ولهذه الآية في هذا المعنى خاصية أزيد مما ورد من الأمر والنهي والمدح والذم في قصة موسى عليه السلام وإبراهيم ونوح وسائر القصص ، فكيف خص هذه القصة بهذه الوجوه دون سائر القصص ، وإذا ثبت بطلان هذه الوجوه بقي ذلك الوجه المشهور فنحن نجيب عنها بالجوابين المشهورين . الأول : أن الله تعالى لما علم وقوع هذه الأشياء فعدمها محال لأن عدمها يستلزم انقلاب العلم جهلا وهو محال والمفضي إلى المحال محال ، وإذا كان عدمها محالا كان التكليف بالترك تكليفا بالمحال . الثاني : أن القادر لما كان قادرا على الضدين امتنع أن يترجح أحد المقدورين على الآخر إلا لمرجح وهو الداعي أو الإرادة وذلك المرجح محدث فله مؤثر وذلك المؤثر إن كان هو العبد لزم التسلسل وهو محال وإن كان هو الله تعالى فذلك هو الجبر على قولك ، فثبت بهذين البرهانين القاطعين سقوط ما قاله ، والله أعلم .