{ وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ البلاغ المبين } إلا بتبليغ رسالته تعالى تبليغاً ظاهراً بيناً بحيث لا يخفى على سامعه ولا يقبل التأويل والحمل على خلاف المراد أصلاً وقد خرجنا من عهدته فلا مؤاخذة علينا من جهة ربنا كذا قيل ، والأولى أن يفسر التبليغ المبين بما قرن بالآيات الشاهدة على الصحة وهم قد بلغوا كذلك بناء على ما روى من أنهم أبرؤا الأكمه وأحيوا الميت أو أنهم فعلوا خارقاً غير ما ذكر ولم ينقل لنا ولم يلتزم في الكتاب الجليل ولا في الآثار ذكر خارق كل رسول كما لا يخفى ، ثم إن ذلك إما معجزة لهم على القول بأنهم رسل الله تعالى بدون واسطة أو كرامة لهم معجزة لمرسلهم عيسى عليه السلام على القول بأنهم رسله عليه السلام ، والمعنى ما علينا من جهة ربنا إلا التبليغ البين بالآيات وقد فعلنا فلا مؤاخذة علينا أو ما علينا شيء نطالب به من حهتكم إلا تبليغ الرسالة على الوجه المذكور وقد بلغنا كذلك فأي شيء تطلبون منا حتى تصدقونا بدعوانا ولكون تبليغهم كان بينا بهذا المعنى حسن منهم الاستشهاد بالعلم فلا تغفل ، وجاء كلام الرسل ثانياً في غاية التأكيد لمبالغة الكفرة في الإنكار جداً حيث أتوا بثلاث جمل وكل منها دال على شدة الانكار كما لا يخفى على من له أدنى تأمل قال السكاكي : أكدوا في المرة الأولى لأن تكذيب الإثنين تذكيب للثالث لاتحاد المقالة فلما بالغوا في تكذيبهم زادوا في التأكيد ، وقال الزمخشري : إن الكلام الأول ابتداء أخبار والثاني جوا بعن إنكار ، ووجه ذلك السيد السند بأن الأول ابتداء إخبار بالنظر إلى أن مجموع الثلاثة لم يسبق منهم إخبار فلا تكذيب لهم في المرة الأولى فيحمل التأكيد فيها على الاعتناء والاهتمام منهم بشأن الخبر انتهى ، وفيه أن الثلاثة كانوا عالمين بإنكارهم والكلام المخرج مع المنكر لا يقال له ابتداء اخبار ، وقال «صاحب الكشف » : أراد أنه غير مسبوق باخبار سابق ولم يرد أنه كلام مع خالي الذهن أو جعل الابتداء باعتبار قول الثالث أو المجموع ، وقال الجلبي : لعل مراده أنه بمنزلة ابتداء إخبار بالنسبة إلى إنكارهم الثاني في عدم احتياجه إلى مثل تلك المؤكذات فكان إنكارهم الأول لا يعد إنكاراً بالنسبة إلى إنكارهم الثاني لا أنه ابتداء اخبار حقيقة ، ولا يخفى ضعف ذلك ، وقال الفاضل اليمني : إنما أكد القول الأول لتنزيلهم منزلة من أنكر إرسال الثلاثة لأنه قد لاح ذلك من إنكار الإثنين فعلى هذا يكون ابتداء اخبار بالنظر إلى إخراج الكلام على مقتضى الظاهر وإنكارياً بالنظر إلى إخراج الكلام لا على مقتضى الظاهر فنظر الزمخشري أدق من نظر السكاكي وإن قال السيد السند بالعكس ، ويعلم ما فيه مما تقدم بأدنى نظر ، وقال أجل المتأخرين الفاضل عبد الحكيم السالكوتي : عندي أن ما ذكره السكاكي مبني على عطف { فَقَالُواْ إِنَّا إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ } [ يس : 4 1 ] على { فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا } [ يس : 14 ] والفاء للتعقيب فيكون الكلام صادراً عن الثلاثة بعد تكذيب الإثنين والتعزيز بثالث فكان كلاماً مع المنكرين فجاء مؤكداً ، وقول الزمخشري مبني على أنه عطف على { إِذْ جَاءهَا المرسلون } [ يس : 3 ] وأنه تفصيل للقصة المذكورة إجمالاً بقوله سبحانه : { إِذْ جَاءهَا المرسلون } إلى قوله تعالى : { فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ } [ يس : 4 1 ] فالفاء للتفصيل فقوله تعالى : { فَقَالُواْ إِنَّا إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ } [ يس : 14 ] بيان لقوله عز وجل : { إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثنين } [ يس : 4 1 ] فيكون ابتداء إخبار صدر من الإثنين قالوا بصيغة الجمع تقريراً لشأن الخبر وقوله تعالى : { قَالُواْ مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا } [ يس : 5 1 ] الخ بيان لقوله تعالى : { فَكَذَّبُوهُمَا } وقوله سبحانه : { رَبَّنَا يعلم إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ البلاغ المبين } [ يس : 6 1 ، 7 1 ] بيان لقوله عز شأنه { فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ } فإن البلاغ المبين هو إثباتهم الرسالة بالمعجزات وهو التعزيز والغلبة ثم قال : ولا يخفى حسن هذا التفسير لموافقته للقصة المذكورة في التفاسير وملاءمته لسوق الآية فإنها ذكرت أولاً إجمالاً بقوله تعالى : { واضرب لَهُمْ مَّثَلاً أصحاب القرية } [ يس : 3 1 ] ثم فصلت بعض التفصيل بقوله تعالى : { إِذْ جَاءهَا المرسلون } إلى قوله سبحانه : { فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ } [ يس : 14 13 ] ثم فصلت تفصيلاً تاماً بقوله تعالى : { قَالُواْ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ } إلى قوله تعالى : { خامدون } [ يس : 16-29 ] وعدم احتياجه إلى جعل الفاء في { فَكَذَّبُوهُمَا } فصحية بخلاف تفسير السكاكي فإنه يحتاج إلى تقدير فدعوا إلى التوحيد اه .
ولا يخفى على المنصف أنه تفسير في غاية البعد والكلام عليه وأصل إلى رتبة الألغاز ، ومع هذا فيه ما فيه ، وأنا أقول : لا يبعد أن يكون الزمخشري أراد بكلامه أحد الاحتمالات التي ذكرت في توجيهه إلا أن ما ذهب إليه السكاكي أبعد عن التكلف وأسلم عن القيل والقال .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.