التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{لَّوۡلَا جَآءُو عَلَيۡهِ بِأَرۡبَعَةِ شُهَدَآءَۚ فَإِذۡ لَمۡ يَأۡتُواْ بِٱلشُّهَدَآءِ فَأُوْلَـٰٓئِكَ عِندَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡكَٰذِبُونَ} (13)

استئناف ثان لتوبيخ العُصبة الذين جاءوا بالإفك وذم لهم . و ( لولا ) هذه مثل ( لولا ) السابقة بمعنى ( هلا ) .

والمعنى : أن الذي يخبر خبراً عن غير مشاهدة يجب أن يستند في خبره إلى إخبار مشاهد ، ويجب كون المشاهدين المخبرين عدداً يفيد خبرهم الصدق في مثل الخبر الذي أخبروا به ؛ فالذين جاءوا بالإفك اختلقوه من سوء ظنونهم فلم يستندوا إلى مشاهدة ما أخبروا به ولا إلى شهادة من شاهدوه ممن يقبل مثلهم فكان خبرهم إفكاً . وهذا مستند إلى الحكم المتقرر من قبل في أول السورة بقوله تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } [ النور : 4 ] فقد علمت أن أول سورة النور نزل أواخر سنة اثنتين أو أوائل سنة ثلاث قبل استشهاد مرثد بن أبي مرثد .

وصيغة الحصر في قوله : { فأولئك عند الله هم الكاذبون } للمبالغة كأن كذبهم لقوته وشناعته لا يعد غيرهم من الكاذبين كاذباً فكأنهم انحصرت فيهم ماهية الموصوفين بالكذب .

واسم الإشارة لزيادة تمييزهم بهذه الصفة ليحذر الناس أمثالهم .

والتقييد بقوله : { عند الله } لزيادة تحقيق كذبهم ، أي هو كذب في علم الله فإن علم الله لا يكون إلا موافقاً لنفس الأمر . وليس المراد ما ذكره كثير من المفسرين أن معنى { عند الله } في شرعه لأن ذلك يصيره قيداً للاحتراز . فيصير المعنى : هم الكاذبون في إجراء أحكام الشريعة . وهذا ينافي غرض الكلام ويجافي ما اقترن به من تأكيد وصفهم بالكذب ؛ على أن كون ذلك هو شرع الله معلوم من قوله : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلودهم ثمانين جلدة } [ النور : 4 ] إلى قوله : { فأولئك عند الله هم الكاذبون } . فمسألة الأخذ بالظاهر في إجراء الأحكام الشرعية مسألة أخرى لا تؤخذ من هذه الآية .