التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{فَقَدۡ كَذَّبُواْ فَسَيَأۡتِيهِمۡ أَنۢبَـٰٓؤُاْ مَا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ} (6)

فاء { فقد كذبوا } فصيحة ، أي فقد تبين أن إعراضهم إعراض تكذيب بعد الإخبار عنهم بأن سنتهم الإعراض عن الذكر الآتي بعضه عقب بعض فإن الإعراض كان لأنهم قد كذبوا بالقرآن . وأما الفاء في قوله : { فسيأتيهم } فَلِتَعْقِيب الإخبار بالوعيد بعد الإخبار بالتكذيب .

والأنباء : جمع نبأ ، وهو الخبر عن الحدث العظيم ، وتقدم عند قوله تعالى { ولقد جاءك من نبأ المرسلين } في سورة الأنعام ( 34 ) .

والأنباء : ظهور صدقها ، وليس المراد من الإتيان هنا البلوغ كالذي في قوله : { وهل أتاك نَبَؤا الخصم } [ ص : 21 ] لأن بلوغ الأنباء قد وقع فلا يحكى بعلامة الاستقبال في قوله : { فسيأتيهم } .

و { ما } في قوله : { ما كانوا به يستهزءون } يجوز أن تكون موصولة فيجوز أن يكون ماصْدَقُها القرآن وذلك كقوله تعالى : { ولا تتخذوا آيات الله هُزؤاً } [ البقرة : 231 ] . وجيء في صلته بفعل { يستهزءون } دون ( يكذِّبون ) لتحصل فائدة الإخبار عنهم بأنهم كذَّبوا به واستهزأوا به ، وتكون الباء في { به } لتعدية فعل { يستهزءون } ، والضمير المجرور عائداً إلى { ما } الموصولة ، وأنباؤه أخباره بالوعيد . ويجوز أن يكون ما صدق { ما } جنسَ ما عُرفوا باستهزائهم به وهو التوعُّد ، كانوا يقولون : مَتى هذا الوعد ؟ ونحو ذلك .

وإضافة { أنبؤا } إلى { ما كانوا به يستهزءون } على هذا إضافة بيانية ، أي ما كانوا به يستهزئون الذي هو أنباء ما سيحلّ بهم .

وجمع الأنباء على هذا باعتبار أنهم استهزأوا بأشياء كثيرة منها البعث ، ومنها العذاب في الدنيا ، ومنها نصر المسلمين عليهم { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } [ يونس : 48 ] ، ومنها فتح مكة ، ومنها عذاب جهنم ، وشجرةُ الزقوم . وكان أبو جهل يقول : زقّمونا ، استهزاء .

ويجوز كون { ما } مصدرية ، أي أنباء كون استهزائهم ، أي حصوله ، وضمير { به } عائداً إلى معلوم من المقام ، وهو القرآن أو الرسول صلى الله عليه وسلم .

والمراد بأنباء استهزائهم أنباءُ جزَائه وعاقبته وهو ما توعدهم به القرآن في غير ما آية .

والقول في إقحام فعل { كانوا } هنا كالقول في إقحامه في قوله آنفاً { كانوا عنه معرضين } [ الشعراء : 5 ] ولكن أوثر الإتيان بالفعل المضارع وهو { يستهزءون } دون اسم الفاعل كالذي في قوله : { كانوا عنه معرضين } لأن الاستهزاء يتجدد عند تجدد وعيدهم بالعذاب ، وأما الإعراض فمتمكّن منهم .

ومعنى { فسيأتيهم أنبؤا ما كانوا به يستهزءون } على الوجه الأول أن يكون الإتيان بمعنى التحقق كما في قوله : { أتى أمر الله } [ النحل : 1 ] ، أي تحقّق ، أي سوف تتحقّق أخبار الوعيد الذي توعدهم به القرآن الذي كانوا يستهزئون به .

وعلى الوجه الثاني سوف تبلغهم أخبار استهزائهم بالقرآن ، أي أخبار العقاب على ذلك . وأوثر إفراد فعل « يأتيهم » مع أن فاعله جمع تكسير لغير مذكر حقيقي يجوز تأنيثه لأن الإفراد أخف في الكلام لكثرة دورانه .