التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{وَأَقۡبَلَ بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ يَتَسَآءَلُونَ} (27)

عطف على { مستسلمون } [ الصافات : 26 ] أي استسلموا وعاد بعضهم على بعض باللائمة والمتسائلون : المتقاولون وهم زعماء أهل الشرك ودهماؤهم كما تبينه حكاية تحاورهم من قوله : { وما كان لنا عليكم من سُلطانٍ } وقوله : { فأغْوَيْناكُم } الخ .

وعبر عن إقبالهم بصيغة المضي وهو مما سيقع في القيامة ، تنبيهاً على تحقيق وقوعه لأن لذلك مزيد تأثير في تحذير زعمائهم من التغرير بهم ، وتحذيرِ دهمائهم من الاغترار بتغريرهم ، مع أن قرينة الاستقبال ظاهرة من السياق من قوله : { فإذا هم يَنظُرُون } [ الصافات : 19 ] الآية .

والإِقبال : المجيء من جهة قُبُل الشيء ، أي من جهة وجهه وهو مجيء المتجاهر بمجيئه غير المتختّل الخائف . واستعير هنا للقصد بالكلام والاهتمام به كأنه جاءه من مكان آخر .

فحاصل المعنى حكاية عتاب ولوم توجه به الذين اتبعوا على قادتهم وزعمائهم ، ودلالةُ التركيب عليه أن يكون الإِتيان أطلق على الدعاية والخطابة فيهم لأن الإِتيان يتضمن القصد دون إرادة مجيء ، كقول النابغة :

آتاك امرؤ مسْتبطن لي بِغضَة

وقد تقدم استعماله واستعمال مرادفه وهو المجيء معاً في قوله تعالى : { قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون وأتَيْناكَ بالحَقّ } الآية في سورة [ الحجر : 63 - 64 ] . أو أن يكون اليمين مراداً به جهة الخير لأن العرب تضيف الخير إلى جهة اليمين . وقد اشتقت من اليُمن وهو البركة ، وهي مؤذنة بالفوز بالمطلوب عندهم . وعلى ذلك جرت عقائدهم في زجر الطير والوحش من التيمّن بالسانح ، وهو الوارد من جهة يمين السائر ، والتشاؤم ، أي ترقب ورود الشر من جهة الشِمال .