المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلَا بِقَوۡلِ كَاهِنٖۚ قَلِيلٗا مَّا تَذَكَّرُونَ} (42)

ثم نفى تعالى أن يكون «قول كاهن » كما زعم بعضهم ، وقرأ ابن كثير وابن عامر والحسن والجحدري : «قليلاً ما يؤمنون وقليلاً ما يذكرون » بالياء جميعاً . وقرأ الباقون : بالتاء من فوق ، ورجح أبو عامر قراءة التاء بقوله تعالى : { فما منكم من أحد } وفي مصحف أبيّ بن كعب «ما تتذكرون » بتاءين .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَلَا بِقَوۡلِ كَاهِنٖۚ قَلِيلٗا مَّا تَذَكَّرُونَ} (42)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{ولا} هو يعني القرآن {بقول كاهن قليلا ما تذكرون} فتعتبرون.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

ولا هو بقول كاهن، لأن محمدا ليس بكاهن، فتقولوا: هو من سجع الكهان.

"قلِيلاً ما تَذَكّرُونَ": تتعظون به أنتم، قليلاً ما تعتبرون به.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

وقوله (ولا بقول كاهن) فالكاهن هو الذي يسجع في كلامه على ضرب من التكلف لتشاكل المقاطع، وهو ضد ما توجبه الحكمة في الكلام، لأنها تقتضي أن يتبع اللفظ المعنى، لأنه إنما يحتاج إلى الكلام للبيان به عن المعنى...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

ولا كاهن كما تدعون، والقلة في معنى العدم. أي: لا تؤمنون ولا تذكرون البتة. والمعنى: ما أكفركم وما أغفلكم.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 41]

ذكر في نفي الشاعرية {قليلا ما تؤمنون} وفي نفي الكاهنية {ما تذكرون} والسبب فيه كأنه تعالى قال: ليس هذا القرآن قولا من رجل شاعر، لأن هذا الوصف مباين لصنوف الشعر كلها إلا أنكم لا تؤمنون، أي لا تقصدون الإيمان، فلذلك تعرضون عن التدبر، ولو قصدتم الإيمان لعلمتم كذب قولكم: إنه شاعر، لمفارقة هذا التركيب ضروب الشعر، ولا أيضا بقول كاهن، لأنه وارد بسبب الشياطين وشتمهم، فلا يمكن أن يكون ذلك بإلهام الشياطين، إلا أنكم لا تتذكرون كيفية نظم القرآن، واشتماله على شتم الشياطين، فلهذا السبب تقولون: إنه من باب الكهانة.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما كانت مباينة القرآن للسجع خفية جداً لما فيه من الفواصل في الأغلب وتركها في البعض فارق لأن الساجعين لا يرضون أن يأتوا بقرينة لا أخت لها ويعدون ذلك عياً وعيباً رديئاً، وكذا تطويل السجعة عن قرينتها وتضعيفها على عديلتها لا يرضى به ساجع ولو أنه هاجع، ومباينة النبي صلى الله عليه وسلم للكهنة ظاهرة جداً، فإن الكاهن من ينصب نفسه للدلال على الضوائع والإخبار بالمغيبات يصدق فيها تارة ويكذب كثيراً، ويأخذ الجعل على ذلك، ويقتصر على من يسأله، فعبر لذلك ب "كاهن " دون " ساجع " أدار أمره على التفكر فقال: {قليلاً ما} وأكد أمر القلة والخفاء بإدغام تاء التفعل فقال تعالى: {تذكرون} فلذلك يلتبس عليكم الأمر أو على من تلبسون عليه بذلك، فعلم أن الذي يفرق بينهما موجود فيهم لأنه يرى أن الكتاب تابع للمعنى الصحيح الثابت، فإن صح غاية الصحة مع وجود القرائن المتوافقة في الروي كان وإلا انتقل عن ذلك إلى قرائن غير متوافقة في روي ولا ما يقاربه، أو قريبة مفردة مع إمكان جعلها كما قبلها لكن مع نقصان المقصود وطول الكلام ونحو ذلك، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدّع يوماً من الأيام علم الغيب، ولا نصب نفسه الشريفة لشيء مما الكهان فيه، ولا نقل في ساعة من الدهر عن الجن خبراً ذكر أنه استفاده منهم، ولا مدحهم لذلك كما تفعل الكهان، بل ذم الفاسقين منهم غاية الذم، ولا سأل جعلاً عما يدعو إليه، ولا اقتصر على من يأتيه للسؤال، بل هو صلى الله عليه وسلم يتبع الناس في مجامعهم يدعوهم إلى الله بإنقاذهم. من الضلال. فمباينته للكهان لا يحتاج إلى غير تذكر قليل -كما أشار إليه إدغام تاء التفعل- فثبت أن القول ليس بكهانة، وقائله والمؤدي له ليس بكاهن، ونسبة القول إلى المبلغ لكونه مبلغاً واضحة الصحة.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 40]

(إنه لقول رسول كريم. وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون، ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون. تنزيل من رب العالمين).. ولقد كان مما تقول به المشركون على القرآن وعلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قولهم: إنه شاعر. وإنه كاهن. متأثرين في هذا بشبهة سطحية، منشؤها أن هذا القول فائق في طبيعته على كلام البشر. وأن الشاعر في وهمهم له رئي من الجن يأتيه بالقول الفائق، وأن الكاهن كذلك متصل بالجن. فهم الذين يمدونه بعلم ما وراء الواقع! وهي شبهة تسقط عند أقل تدبر لطبيعة القرآن والرسالة، وطبيعة الشعر أو الكهانة.. فالشعر قد يكون موسيقي الإيقاع، رائع الأخيلة، جميل الصور والظلال؛ ولكنه لا يختلط أبدا ولا يشتبه بهذا القرآن إن هنالك فارقا أساسيا فاصلا بينهما. إن هذا القرآن يقرر منهجا متكاملا للحياة يقوم على حق ثابت، ونظرة موحدة، ويصدر عن تصور للوجود الإلهي ثابت، وللكون والحياة كذلك. والشعر انفعالات متوالية وعواطف جياشة، قلما تثبت على نظرة واحدة للحياة في حالات الرضى والغضب، والانطلاق والانكماش، والحب والكره، والتأثرات المتغيرة على كل حال! هذا إلى أن التصور الثابت الذي جاء به القرآن قد أنشأه القرآن من الأساس، في كلياته وجزئياته، مع تعين مصدره الإلهي. فكل ما في هذا التصور يوحي بأنه ليس من عمل البشر، فليس من طبيعة البشر أن ينشئوا تصورا كونيا كاملا كهذا التصور.. لم يسبق لهم هذا ولم يلحق.. وهذا كل ما أبدعته قرائح البشر من تصورات للكون وللقوة المنشئة له المدبرة لنظامه.. هذا هو معروضا مسجلا في الفلسفة وفي الشعر وفي غيرها من المذاهب الفكرية؛ فإذا قرن إلى التصور القرآني وضح أن هذا التصور صادر من جهة غير تلك الجهة! وأنه متفرد بطابع معين يميزه من كل تصورات البشر. كذلك الأمر في الكهانة وما يصدر عنها. فلم يعرف التاريخ من قبل أو بعد كاهنا أنشأ منهجا متكاملا ثابتا كالمنهج الذي جاء به القرآن. وكل ما نقل عن الكهنة أسجاع لفظية أو حكمة مفردة، أو إشارة ملغزة! وهناك لفتات ليس من طبيعة البشر أن يلتفتوها، وقد وقفنا عند بعضها في هذه الظلال أحيانا. فلم يسبق لبشر ولم يلحق كذلك أن أراد التعبير عن العلم الشامل الدقيق اللطيف، فاتجه إلى مثل هذه الصورة التي جاءت في القرآن: وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو، ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين.. أو إلى مثل هذه الصورة: يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، وهو معكم أينما كنتم، والله بما تعملون بصير أو إلى مثل هذه الصورة: وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه. وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب. إن ذلك على الله يسير كذلك لم يسبق لبشر ولم يلحق أن التفت مثل هذه اللفتة إلى القدرة التي تمسك هذا الكون وتدبره: إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا. ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده.. أو هذه اللفتة إلى انبثاقات الحياة في الكون من يد القدرة المبدعة وما يحيط بالحياة من موافقات كونية مدبرة مقدرة: (إن الله فالق الحب والنوى، يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي. ذلكم الله. فأنى تؤفكون. فالق الإصباح. وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا، ذلك تقدير العزيز العليم. وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر، قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون. وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع، قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون. وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء، فأخرجنا منه خضرا، نخرج منه حبا متراكبا، ومن النخل من طلعها قنوان دانية، وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه. انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون).. وهذه اللفتات الكونية كثيرة في القرآن كثرة ملحوظة، ولا نظير لها فيما تتجه إليه خواطر البشر للتعبير عن مثل المعاني التي يعبر عنها القرآن.. وهذه وحدها كافية لمعرفة مصدر هذا الكتاب.. بغض النظر عن كل دلالة أخرى من صلب الكتاب أو من الملابسات المصاحبة له على السواء. فالشبهة واهية سطحية. حتى حين كان القرآن لم يكتمل، ولم تتنزل منه إلا سور وآيات عليها ذلك الطابع الإلهي الخاص، وفيها ذلك القبس الموحي بمصدرها الفريد. وكبراء قريش كانوا يراجعون أنفسهم، ويردون على هذه الشبهة بين الحين والحين. ولكن الغرض يعمي ويصم. وإذ لم يهتدوا به فسيقولون: هذا إفك قديم. كما يقول القرآن الكريم! وقد حكت كتب السيرة مواقف متعددة لزعماء قريش، وهم يراجعون هذه الشبهة وينفونها فيما بينهم. من ذلك ما رواه ابن اسحق عن الوليد بن المغيرة، وعن النضر بن الحارث، وعن عتبة بن ربيعة وقد جاء في روايته عن الأول: "ثم إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش. وكان ذا سن فيهم؛ وقد حضر الموسم. فقال لهم: يا معشر قريش، إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا؛ فأجمعوا فيه رأيا واحدا، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا، ويرد قولكم بعضه بعضا، فقالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقل، وأقم لنا رأيا نقل به. قال: بل أنتم فقولوا أسمع. قالوا: نقول: كاهن. قال: لا والله، ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا: فنقول: مجنون. قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. قالوا: فنقول: شاعر. قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر. قالوا: فنقول: ساحر. قال: ما هو بساحر؛ لقد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثهم ولا عقدهم.. قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناة وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا: هو ساحر جاء بقول هو سحر يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته. فتفرقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون بسبل الناس -حين قدموا الموسم- لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا لهم أمره... " وحكى عن الثاني [النضر بن الحارث] قال: " فقال يا معشر قريش. إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد. قد كان محمد فيكم غلاما حدثا، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب، وجاءكم بما جاءكم به قلتم: ساحر! لا والله، ما هو بساحر. لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم. وقلتم كاهن! لا والله ما هو بكاهن. قد رأينا الكهنة وتخالجهم، وسمعنا سجعهم. وقلتم: شاعر! لا والله ما هو بشاعر. قد رأينا الشعر، وسمعنا أصنافه كلها هزجه ورجزه. وقلتم: مجنون! لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه. يا معشر قريش، فانظروا في شأنكم، فإنه والله قد نزل بكم أمر عظيم...". والمطابقة تكاد تكون تامة -بين قوله وقول عتبة. وقد يكون هو حادثا واحدا نسب مرة إلى هذا ومرة إلى ذاك. ولكن لا نستبعد كذلك أن يتطابق قولان لرجلين من كبار قريش في موقفين متشابهين من مواقف حيرتهم تجاه هذا القرآن! وأما موقف عتبة فقد سبقت حكايته في استعراضنا لسورة القلم في هذا الجزء.. وهو قريب من موقف الوليد والنضر تجاه محمد وتجاه القول الذي جاء به.. فما كان قولهم: ساحر أو كاهن، إلا حيلة ماكرة أحيانا وشبهة مفضوحة أحيانا. والأمر أوضح من أن يلتبس عند أول تدبر وأول تفكير. وهو من ثم لا يحتاج إلى قسم بما يعلمون وما لا يعلمون: إنه لقول رسول كريم. وما هو بقول شاعر. ولا بقول كاهن.. إنما هو تنزيل من رب العالمين. وتقرير أنه قول رسول كريم لا يعني أنه من إنشائه، ولكن المراد هنا أنه قول من نوع آخر. لا يقوله شاعر، ولا يقوله كاهن، إنما يقوله رسول، يرسل به من عند الله، فيحمله من هناك، من ذلك المصدر الذي أرسله.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

وإنما خص هذان بالذكر دون قولهم: افتراه، أو هو مجنون، لأن الوصف بكريم كاف في نفي أن يكون مجنوناً أو كاذباً، إذ ليس المجنون ولا الكاذب بكريم، فأما الشاعر والكاهن فقد كانا معدودين عندهم من أهل الشرف.