{ وما لا تبصرون } أي بما ترون وبما لا ترون . قال قتادة : أقسم بالأشياء كلها فيدخل فيه جميع المخلوقات والموجودات . وقال : أقسم بالدنيا والآخرة . وقيل ما تبصرون : ما على وجه الأرض ، و ما لا تبصرون : ما في بطنها . وقيل : ما تبصرون : من الأجسام و ما لا تبصرون : من الأرواح . وقيل : ما تبصرون : الإنس وما لا تبصرون : الملائكة والجن . وقيل النعم الظاهرة والباطنة . وقيل : ما تبصرون : ما أظهر للملائكة واللوح والقلم : وما لا تبصرون : ما استأثر بعله فلم يطلع عليه أحداً .
وفي ظل هذه المشاهد العنيفة المثيرة ، المتوالية منذ أول السورة ، مشاهد الأخذ في الدنيا والآخرة ، ومشاهد التدمير الكونية الشاملة ، ومشاهد النفوس المكشوفة العارية ، ومشاهد الفرحة الطائرة والحسرة الغامرة . .
في ظل هذه المشاهد العميقة الأثر في المشاعر يجيء التقرير الحاسم الجازم عن حقيقة هذا القول الذي جاءهم به الرسول الكريم ، فتلقوه بالشك والسخرية والتكذيب :
( فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون . إنه لقول رسول كريم . وما هو بقول شاعر ، قليلا ما تؤمنون . ولا بقول كاهن ، قليلا ما تذكرون . تنزيل من رب العالمين ) . .
إن الأمر لا يحتاج إلى قسم وهو واضح هذا الوضوح ، ثابت هذا الثبوت ، واقع هذا الوقوع . لا يحتاج إلى قسم أنه حق ، صادر عن الحق ، وليس شعر شاعر ، ولا كهانة كاهن ، ولا افتراء مفتر ! لا . فما هو بحاجة إلى توكيد بيمين :
( فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون ) . .
بهذه الفخامة وبهذه الضخامة ، وبهذا التهويل بالغيب المكنون ، إلى جانب الحاضر المشهود . . والوجود أضخم بكثير مما يرى البشر . بل مما يدركون . وما يبصر البشر من الكون وما يدركون إلا أطرافا قليلة محصورة ، تلبي حاجتهم إلى عمارة هذه الأرض والخلافة فيها - كما شاء الله لهم - والأرض كلها ليست سوى هباءة لا تكاد ترى أو تحس في ذلك الكون الكبير . والبشر لا يملكون أن يتجاوزوا ما هو مأذون لهم برؤيته وبإدراكه من هذا الملك العريض ، ومن شؤونه وأسراره ونواميسه التي أودعها إياه خالق الوجود . .
( فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون ) . .
ومثل هذه الإشارة تفتح القلب وتنبه الوعي إلى أن هناك وراء مد البصر ووراء حدود الإدراك جوانب وعوالم وأسرارا أخرى لا يبصرها ولا يدركها . وتوسع بذلك آفاق التصور الإنساني للكون والحقيقة . فلا يعيش الإنسان سجين ما تراه عيناه ، ولا أسير ما يدركه وعيه المحدود . فالكون أرحب والحقيقة أكبر من ذلك الجهاز الإنساني المزود بقدر محدود من الطاقة يناسب وظيفته في هذا الكون . ووظيفته في الحياة الدنيا هي الخلافة في هذه الأرض . . ولكنه يملك أن يكبر ويرتفع إلى آماد وآفاق أكبر وأرفع حين يستيقن أن عينه ومداركه محدودة ، وأن هناك وراء ما تدركه عينه ووعيه عوالم وحقائق أكبر - بما لا يقاس - مما وصل إليه . . عندئذ يتسامى على ذاته ويرتفع على نفسه ، ويتصل بينابيع المعرفة الكلية التي تفيض على قلبه بالعلم والنور والاتصال المباشر بما وراء الستور !
إن الذين يحصرون أنفسهم في حدود ما ترى العين ، ويدرك الوعي ، بأدواته الميسرة له . . مساكين ! سجناء حسهم وإدراكهم المحدود . محصورون في عالم ضيق على سعته ، صغير حين يقاس إلى ذلك الملك الكبير . .
وفي فترات مختلفة من تاريخ هذه البشرية كان كثيرون أو قليلون يسجنون أنفسهم بأيديهم في سجن الحس المحدود ، والحاضر المشهود ؛ ويغلقون على أنفسهم نوافذ المعرفة والنور ، والاتصال بالحق الكبير ، عن طريق الإيمان والشعور . ويحاولون أن يغلقوا هذه النوافذ على الناس بعد ما أغلقوها على أنفسهم بأيديهم . . تارة باسم الجاهلية . وتارة باسم العلمانية ! وهذه كتلك سجن كبير . وبؤس مرير . وانقطاع عن ينابيع المعرفة والنور !
والعلم يتخلص في هذا القرن الأخير من تلك القضبان الحديدية التي صاغها - بحمق وغرور - حول نفسه في القرنين الماضيين . . يتخلص من تلك القضبان ، ويتصل بالنور - عن طريق تجاربه ذاتها - بعد ما أفاق من سكرة الغرور والاندفاع من أسر الكنيسة الطاغية في أوربا ؛ وعرف حدوده ، وجرب أن أدواته المحدودة تقوده إلى غير المحدود في هذا الكون وفي حقيقته المكنونة . وعاد " العلم يدعو إلى الإيمان " في تواضع تبشر أوائله بالفرج ! أي نعم بالفرج . فما يسجن الإنسان نفسه وراء قضبان المادة الموهومة إلا وقد قدر عليه الضيق !
ولقد رأينا عالما مثل ألكسيس كاريل الطبيب المتخصص في بحوث الخلية ونقل الدم والمشتغل بالطب علما وجراحة وإشرافا على معاهد العلاج والنظريات العلاجية ، وصاحب جائزة نوبل سنة 1912 ومدير معهد الدراسات الإنسانية بفرنسا خلال الحرب العالمية الثانية يرى :
" أن الكون على رحبه مملوء بعقول فعالة غير عقولنا ، وأن العقل الإنساني هاد قاصد بين دروب التيه التي حوله إذا كان معوله كله على هدايته . وإن الصلاة من وسائل الاتصال بالعقول التي حولنا ، وبالعقل الأبدي المسيطر على مقادير الأكوان قاطبة ، فيما هو ظاهر لنا وما هو محتجب عنا في طي الخفاء " .
" وأن الشعور بالقداسة مع غيره من قوى النشاط الروحاني له شأن خاص في الحياة ، لأنه يقيمنا على اتصال بآفاق الخفاء الهائل من عالم الروح " . .
ورأينا طبيبا آخر مثل " دي نوي " الذي اشتغل بمباحث التشريح والعلم الطبيعي ، وعمل مع الأستاذ كوري وقرينته ، واستدعاه معهد روكفلر لمواصلة بحث مع أعضائه في خصائص وعلاج الجراح . . يقول :
" كثير من الأذكياء وذوي النية الحسنة يتخيلون أنهم لا يستطيعون الإيمان بالله لأنهم لا يستطيعون أن يدركوه . على أن الإنسان الأمين الذي تنطوي نفسه على الشوق العلمي لا يلزمه أن يتصور الله إلا كما يلزم العالم الطبيعي أن يتصور الكهرب . فإن التصور في كلتا الحالتين ناقص وباطل . وليس الكهرب قابلا للتصور في كيانه المادي ! وإنه مع هذا لأثبت في آثاره من قطعة الخشب " . . .
ورأينا عالما طبيعيا مثل سير أرثر طومسون المؤلف الاسكتلندي الشهير يقول : " إننا في زمن شفت فيه الأرض الصلبة ، وفقد فيه الأثير كيانه المادي ، فهو أقل الأزمنة صلاحا للغلو في التأويلات المادية " .
ويقول في مجموعة " العلم والدين " :
" ليس للعقل المتدين أن يأسف اليوم لأن العالم الطبيعي لا يخلص من الطبيعة إلى رب الطبيعة . إذ ليست هذه وجهته . وقد تكون النتيجة أكبر جدا من المقدمة إذا خرج العلماء بالاستنتاج من الطبيعة إلى ما فوق الطبيعة . إلا أننا خلقاء أن نغتبط لأن العلماء الطبيعيين قد يسروا للنزعة الدينية أن تتنفس في جو العلم ، حيث لم يكن ذلك يسيرا في أيام آبائنا وأجدادنا . . . فإذا لم يكن عمل الطبيعيين أن يبحثوا في الله - كما زعم مستر لانجدون دافيز خطأ في كتابه البديع عن الإنسان وعالمه - فنحن نقرر عن روية أن أعظم خدمة قام بها العلم ، أنه قاد الإنسان إلى فكرة عن الله أنبل وأسمى ، ولا نجاوز المعنى الحرفي حين نقول : إن العلم أنشأ للإنسان سماء جديدة وأرضا جديدة ، وحفزه من ثم إلى غاية جهده العقلي ، فإذا به ، في كثير من الأحيان ، لا يجد السلام إلا حيث يتخطى مدى الفهم ، وذلك في اليقين والاطمئنان إلى الله " .
ورأينا عالما مثل " ا . كريسي موريسون " رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك وعضو المجلس التنفيذي لمجلسالبحوث القومي بالولايات المتحدة سابقا يقول في كتابه : " الإنسان لا يقوم وحده " :
" إننا نقترب فعلا من عالم المجهول الشاسع ، إذ ندرك أن المادة كلها قد أصبحت من الوجهة العلمية مجرد مظهر لوحدة عالمية هي في جوهرها كهربائية . ولكن مما لا ريب فيه أن المصادفة لم يكن لها دخل في تكوين الكون ، لأن هذا العالم العظيم خاضع للقانون " .
" إن ارتقاء الإنساني الحيواني إلى درجة كائن مفكر شاعر بوجوده ، هو خطوة أعظم من أن تتم عن طريق التطور المادي ، ودون قصد ابتداعي .
" وإذا قبلت واقعية القصد ، فإن الإنسان بوصفه هذا قد يكون جهازا . ولكن ما الذي يدير هذا الجهاز ? لأنه بدون أن يدار لا فائدة منه . والعلم لا يعلل من يتولى إدارته ، وكذلك لا يزعم أنه مادي . "
" لقد بلغنا من التقدم درجة تكفي لأن نوقن بأن الله قد منح الإنسان قبسا من نوره . . . "
وهكذا بدأ العلم يخرج من سجن المادية وجدرانها بوسائله الذاتية ، فيتصل بالجو الطليق الذي يشير القرآن إليه بمثل تلك الآية الكريمة : ( فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون ) . ونظائره المتعددة . وإن يكن بيننا نحن من أقزام التفكير والشعور من لا يزال يغلق بكلتا يديه نوافذ النور على نفسه وعلى من حوله باسم العلم ! في تخلف عقلي عن العلم ، وفي تخلف روحي عن الدين ، وفي تخلف شعوري عن الحرية الطليقة في معرفة الحقيقة ! وفي تخلف إنساني عما يليق بالكائن الإنساني الكريم !
يقول تعالى مُقسمًا لخلقه بما يشاهدونه من آياته في مخلوقاته الدالة على كماله في أسمائه وصفاته ، وما غاب عنهم مما لا يشاهدونه من المغيبات عنهم : إن القرآن كلامُه ووحيه وتنزيلُه على عبده ورسوله ، الذي اصطفاه لتبليغ الرسالة وأداء الأمانة ، فقال : { فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } يعني : محمدًا ، أضافه إليه على معنى التبليغ ؛ لأن الرسول من شأنه أن يبلغ عن المرسل ؛ ولهذا أضافه في سورة التكوير إلى الرسول الملكي : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } وهذا جبريل ، عليه السلام .
ثم قال : { وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ } يعني : محمدًا صلى الله عليه وسلم { وَلَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ } يعني : أن محمدا رأى جبريل على صورته التي خلقه الله عليها ، { وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ } أي : بمتهم { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ } [ التكوير : 19 - 25 ] ، وهكذا قال هاهنا : { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ } ،
يقول تعالى ذكره : فلا ، ما الأمر كما تقولون معشر أهل التكذيب بكتاب الله ورسله ، أقسم بالأشياء كلها التي تبصرون منها ، والتي لا تبصرون . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ ومَا لا تُبْصِرُونَ قال : أقسم بالأشياء ، حتى أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ يقول : بما ترون وبما لا ترون .
جمع الله في هذا القَسَم كل ما الشأن أن يُقسَم به من الأمور العظيمة من صفات الله تعالى ومن مخلوقاته الدالة على عظيم قدرته إذ يجمع ذلك كله الصِلَتان { بما تبصرون وما لا تبصرون } ، فمما يبصرون : الأرض والجبال والبحار والنفوس البشرية والسماوات والكواكب ، وما لا يبصرون : الأرواح والملائكة وأمور الآخرة .
و { لا أقسم } صيغة تحقيققِ قَسَم ، وأصلها أنها امتناع من القسَم امتناع تحرّج من أن يحلف بالمُقْسممِ به خشية الحنث ، فشاع استعمال ذلك في كل قسم يراد تحقيقه ، واعتبر حرف ( لا ) كالمزيد كما تقدم عند قوله : { فلا أقسم بمواقع النجوم } في سورة الواقعة ( 75 ) ، ومن المفسرين من جعل حرف ( لا ) في هذا القسم إبطالاً لكلام سابق وأنّ فعل أُقْسِم } بعدها مستأنف ، ونُقض هذا النوع بوقوع مثله في أوائل السور مثل : { لا أقسم بيوم القيامة } [ القيامة : 1 ] و { لا أقسم بهذا البلد } [ البلد : 1 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فلا، ما الأمر كما تقولون معشر أهل التكذيب بكتاب الله ورسله، "أقسم " بالأشياء كلها التي تبصرون منها، والتي لا تبصرون.
عن ابن عباس، في قوله: "فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ" يقول: بما ترون وبما لا ترون.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 38]
{فلا أقسم بما تبصرون} {وما لا يبصرون} قد وصفنا أن تأويل قوله: {فلا أقسم بما تبصرون} من خلق السماوات والأرض وأنفسكم من الأسماع والأبصار والقلوب والعقول، أو ما تبصرون من الخلائق ممن حضركم {وما لا تبصرون} من الخلائق إن غاب عنكم. فيكون القسم بما نبصر وما لا نبصر قسما بالخلائق أجمع، لأن جملة الخلائق على هذين الوجهين: فصنف يرى، وصنف لا يرى. وقد ذكرنا أن القسم من الله عز وجل لتأكيد ما يقصد إليه مما يعرف بالتدبر والتأمل.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{فلا أقسم بما تبصرون وما لا يبصرون}: بما تعلمون وما لا تعلمون، مبالغة في عموم القسم.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 38]
يقول تعالى مُقسمًا لخلقه بما يشاهدونه من آياته في مخلوقاته الدالة على كماله في أسمائه وصفاته، وما غاب عنهم مما لا يشاهدونه من المغيبات.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جمع الله في هذا القَسَم كل ما الشأن أن يُقسَم به من الأمور العظيمة من صفات الله تعالى ومن مخلوقاته الدالة على عظيم قدرته إذ يجمع ذلك كله الصِلَتان {بما تبصرون وما لا تبصرون}...