( ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله . ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب ) . .
والمشاقة أن يأخذوا لهم شقا غير شق الله ، وجانبا غير جانبه . وقد جعل الله جانبه هو جانب رسوله حين وصف علة استحقاقهم للعذاب في صدر الآية . فاكتفى في عجزها بمشاقة الله وحده فهي تشمل مشاقة الرسول وتتضمنها . ثم ليقف المشاقون في ناحية أمام الله - سبحانه - وهو موقف فيه تبجح قبيح ، حين يقف المخاليق في وجه الخالق يشاقونه ! وموقف كذلك رعيب ، وهذه المخاليق الضئيلة الهزيلة تتعرض لغضب الله وعقابه . وهو شديد العقاب .
وهكذا تستقر في القلوب حقيقة مصائر المشاقين لله في كل أرض وفي كل وقت . من خلال مصير الذين كفروا من أهل الكتاب ، وما استحقوا به هذا العقاب .
ولا يفوتنا أن نلحظ تسمية القرآن ليهود بني النضير بأنهم ( الذين كفروا من أهل الكتاب )وتكرار هذه الصفة في السورة . فهي حقيقة لأنهم كفروا بدين الله في صورته العليا التي جاء بها محمد [ صلى الله عليه وسلم ] وقد كان اليهود ينتظرونها ويتوقعونها . وذكر هذه الصفة في الوقت نفسه يحمل بيانا بسبب التنكيل بهم ؛ كما أنه يعبئ شعور المسلمين تجاههم تعبئة روحية تطمئن لها قلوبهم فيما فعلوا معهم ، وفيما حل بهم من نكال وعذاب على أيديهم . فذكر هذه الحقيقة هنا مقصود ملحوظ !
وقوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي : إنما فَعلَ الله بهم ذلك وسَلَّط عليهم رسوله وعباده المؤمنين ؛ لأنهم خالفوا الله ورسوله ، وكذبوا بما أنزل الله على رسله المتقدمين في{[28510]} البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وهم يعرفون ذلك كما يعرفون أبناءهم ، ثم قال : { وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } .
حدثنا ابن حَميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن رومان { وَما أفاءَ الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ يعني بني النضير فَمَا أوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلَكِنّ الله يُسَلّط رُسُلَه على مَنْ يَشاءُ وَالله على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال حدثنا ورقاء جمعيا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله { فَمَا أوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ } قال : يذكر ربهم أنه نصرهم ، وكفاهم بغير كراع ، ولا عدّة في قريظة وخيبر ، ما أفاء الله على رسوله من قريظة ، جعلها لمهاجرة قريش .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله { وَما أفاءَ الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلَكِنّ الله يُسَلّط رُسُلَه على مَنْ يَشاءُ وَالله على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }قال : أمر الله عزّ وجلّ نبيه بالسير إلى قريظة والنضير وليس للمسلمين يومئذ كثير خيل ولا ركاب فجعل ما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكم فيه ما أراد ، ولم يكن يومئذ خيل ولا ركاب يوجف بها . قال : والإيجاف : أن يوضعوا السير وهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان من ذلك خيبر وَفدَك وقُرًى عَرَبيةً ، وأمر الله رسوله أن يعد لينبع ، فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاحتواها كلها ، فقال ناس : هلا قسّمها ، فأنزل الله عزّ وجلّ عذره ، فقال : { ما أفاءَ اللّهُ على رَسُولِهِ مِنْ أهْل القُرَى فَلِلّهِ وللرّسُولِ وَلِذِي القُرْبى وَاليتَامَى وَالمَساكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ ثم قال : وَما آتاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فانْتَهُوا . . . }الآية .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : { فَمَا أوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ }يعني يوم قُرَيظة .
وقوله : { وَلَكِنّ اللّهَ يُسَلّطُ رُسُلَهُ على مَنْ يَشاء }أعلمك أنه كما سلّط محمدا صلى الله عليه وسلم على بني النضير ، يخبر بذلك جلّ ثناؤه أن ما أفاء الله عليه من أموال لم يُوجِفِ المسلمون بالخيل والركاب ، من الأعداء مما صالحوه عليه له خاصة يعمل فيه بما يرى . يقول : فمحمد صلى الله عليه وسلم إنما صار إليه أموال بني النضير بالصلح إلا عنوة ، ، فتقع فيها القسمة { وَاللّه على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }يقول : والله على كلّ شيء أراده ذو قدرة لا يَعجزه شيء ، وبقُدرته على ما يشاء سلّط نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم على ما سلط عليه من أموال بني النضير ، فحازه عليهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ذلك} الذي نزل بهم من الجلاء {بأنهم شاقوا الله ورسوله} يعني عادَوا الله ورسوله.
{ومن يشاق الله} ورسوله يعني ومن يعادي الله ورسوله.
{فإن الله شديد العقاب} إذا عاقب.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) يقول تعالى ذكره: هذا الذي فعل الله بهؤلاء اليهود ما فعل بهم من إخراجهم من ديارهم، وقذف الرعب في قلوبهم من المؤمنين، وجعل لهم في الآخرة عذاب النار بما فعلوا هم في الدنيا من مخالفتهم الله ورسوله في أمره ونهيه، وعصيانهم ربهم فيما أمرهم به من اتباع محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم. (وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) يقول تعالى ذكره: ومن يخالف الله في أمره ونهيه، فإن الله شديد العقاب...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ثم بيّن لم فعل بهم ذلك، فقال {ذلك} أي فعلنا بهم ذلك {بأنهم شاقوا الله ورسوله} وخالفوهما وعصوهما. ثم توعد من يسلك مسلكهم في المشاقة لله ورسوله، فقال {ومن يشاق الله ورسوله فان الله شديد العقاب} يعاقبهم على مشاقتهم بالشد العقاب...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
معناه: صاروا في شق غير شق المؤمنين...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
يَعْنِي نَقَضُوا الْعَهْدَ. وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُمْ صَارُوا فِي شِقٍّ، أَيْ جِهَةٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي أُخْرَى، وَذِكْرُ اللَّهِ مَعَ رَسُولِهِ تَشْرِيفٌ لَهُ.
... {ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب} والمقصود منه الزجر.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أخبر بما نالهم في الدنيا وينالهم في الآخرة، علله بقوله: {ذلك} أي الأمر العظيم الذي فعله بهم من الجلاء ومقدماته في الدنيا ويفعله بهم في الآخرة {بأنهم} ولما كانوا قد ضموا في هذه القضية إلى ما كانوا عليه من الكفر الظاهر كفراً باطناً بما أرادوا من إلقاء الرحى وغيره من الأذى مكراً منهم، أدغم في قوله: {شاقوا الله} أي الملك الأعلى الذي له الإحاطة التامة، فكانوا في شق غير شقه بأن صاروا في شق الأعداء المحاربين بعد ما كانوا في شق الموادعين...
ولما جارى رسول الله صلى الله عليه وسلم إخفاءهم لما أرادوا أن يفعلوا به بالإخفاء لخلاصه منهم بأن رجع إلى المدينة الشريفة وترك أصحابه رضي الله عنهم عندهم قال: {ورسوله} الذي إجلاله من إجلاله. ولما أخبر بفعله وبسببه، عطف عليه تأكيداً لمضمونه وإفاده لأنه يفعل في غيرهم ممن كان على أمرهم أعظم من فعلهم فقال: {و من يشاق الله} أي يوقع في الباطن مشاققة الملك الأعلى الذي لا كفوء له في الحال أو الماضي أو الاستقبال سواء أبطن معها مشاققة أخرى أو لا، وترك الإدغام على حاله لأنهم ما أظهروا معاداة وإنما كان ما فعلوا مكراً ومساترة، وذلك أخف من المجاهرة،... وأظهر في الأنفال لقوة أمر المجاهرين كما مضى، ولم يعد ذكر الرسول تفخيماً له بإفهام أن مشاققته مشاققة لله من غير مثنوية أصلاً، وإشارة إلى أنهم بالغوا في إخفاء مشاققتهم، فلم يظهر عليها غير الله، فلم يحصل منهم في ذلك مفاعلة بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لم يمكر بهم، وإنما جاهرهم حين أعلمه الله بمكرهم بخلاف ما تقدم في الأنفال، فإن المقام اقتضى هناك الذكر لأنهم مكروا به... كما قال تعالى (وإذ يمكر بك الذين كفروا} [الأنفال: 30] الآية وهو صلى الله عليه وسلم أخفى أمر هجرته وأعمل الحيلة في الخلاص من مكرهم على حسب ما أمره الله به فحصلت المفاعلة في تحيز كل من الفريقين إلى شق غير شق الآخر خفية {فإن الله} أي المحيط بجميع العظمة يشدد عقابه له لأنه {شديد العقاب} وذلك كما فعل ببني قريظة بعد هذا حيث نقضوا عهدهم وأظهروا المشاققة في غزوة الأحزاب وكما فعل أهل خيبر، وكانوا يماكرون ويساترون في الأولى عند فتحها وفي الثانية عند إجلائهم منها، فقد سوى بين المساترين والمجاهرين في العذاب وهو للمجاهرين أشد عذاباً كما هو واضح...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
[{و من يشاق الله}] والاقتصارُ على ذكرِ مشاقَّتِهِ تعالى لتضمُّنِها لمشاقَّتِهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ وليوافقَ قولَهُ تعالى {فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله. ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب).. والمشاقة أن يأخذوا لهم شقا غير شق الله، وجانبا غير جانبه. وقد جعل الله جانبه هو جانب رسوله حين وصف علة استحقاقهم للعذاب في صدر الآية. فاكتفى في عجزها بمشاقة الله وحده فهي تشمل مشاقة الرسول وتتضمنها. ثم ليقف المشاقون في ناحية أمام الله -سبحانه- وهو موقف فيه تبجح قبيح، حين يقف المخاليق في وجه الخالق يشاقونه! وموقف كذلك رعيب، وهذه المخاليق الضئيلة الهزيلة تتعرض لغضب الله وعقابه. وهو شديد العقاب. وهكذا تستقر في القلوب حقيقة مصائر المشاقين لله في كل أرض وفي كل وقت. من خلال مصير الذين كفروا من أهل الكتاب، وما استحقوا به هذا العقاب. ولا يفوتنا أن نلحظ تسمية القرآن ليهود بني النضير بأنهم (الذين كفروا من أهل الكتاب) وتكرار هذه الصفة في السورة. فهي حقيقة لأنهم كفروا بدين الله في صورته العليا التي جاء بها محمد [صلى الله عليه وسلم] وقد كان اليهود ينتظرونها ويتوقعونها. وذكر هذه الصفة في الوقت نفسه يحمل بيانا بسبب التنكيل بهم؛ كما أنه يعبئ شعور المسلمين تجاههم تعبئة روحية تطمئن لها قلوبهم فيما فعلوا معهم، وفيما حل بهم من نكال وعذاب على أيديهم. فذكر هذه الحقيقة هنا مقصود ملحوظ!...