قوله تعالى : { ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض } ، الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم ، و المراد به الجميع ، وقيل معناه : ألم تعلم أيها الإنسان ، فيكون خطاباً لكل أحد من الناس .
قوله تعالى : { يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء } ، قال السدي والكلبي : يعذب من يشاء من مات على كفره ، ويغفر لمن يشاء من تاب من كفره . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : يعذب من يشاء على الصغيرة ، ويغفر لمن يشاء على الكبيرة .
وعلى ذكر الجريمة والعقوبة ، وذكر التوبة والمغفرة ، يعقب السياق القرآني بالمبدأ الكلي الذي تقوم عليه شريعة الجزاء في الدنيا والآخرة . فخالق هذا الكون ومالكه هو صاحب المشيئة العليا فيه ، وصاحب السلطان الكلي في مصائره . هو الذي يقرر مصائره ومصائر من فيه ، كما أنه هو الذي يشرع للناس في حياتهم ، ثم يجزيهم على عملهم في دنياهم وآخرتهم .
( ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير ) .
فهي سلطة واحدة . . سلطة الملك . . يصدر عنها التشريع في الدنيا ويصدر عنها الجزاء في الآخرة ، ولا تعدد ولا انقسام ولا انفصام . . ولا يصلح أمر الناس إلا حين تتوحد سلطة التشريع وسلطة الجزاء ، في الدنيا والآخرة سواء . . و ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) . . ( وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ) . .
{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يُعَذّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَاللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . .
يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ألم يعلم هؤلاء القائلون : لَنْ تَمَسّنا النّارُ إلاّ أيّاما مَعْدُودَةً الزّاعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه ، أن الله مدبر ما في السموات وما في الأرض ، ومصرّفه وخالقه ، لا يمتنع شيء مما في واحدة منهما مما أراده لأن كلّ ذلك ملكه وإليه أمره ، ولا نسب بينه وبين شيء مما فيها ولا مما في واحدة منهما فيحابيه بسبب قرابته منه فينجيه من عذابه وهو به كافر ولأمره ونهيه مخالف ، أو يدخله النار وهو له مطيع لبعد قرابته منه ولكنه يعذّب من يشاء من خلقه في الدنيا على معصيته بالقتل والخسف والمسخ وغير ذلك من صنوف عذابه ، ويغفر لمن يشاء منهم في الدنيا بالتوبة عليه من كفره ومعصيته ، فينقذه من الهَلَكة وينجيه من العقوبة . وَاللّهُ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يقول : والله على تعذيب من أراد تعذيبه من خلقه على معصيته وغفران ما أراد غفرانه منهم باستنقاذه من الهكة بالتوبة عليه وغير ذلك من الأمور كلها قادر ، لأن الخلق خلقه والملك ملكه والعباد عباده . وخرج قوله : ألَمْ تَعْلَمْ أن اللّهَ لَهُ مُلْكُ السّمَوَاتِ والأرْضِ خطابا له صلى الله عليه وسلم ، والمعنيّ به من ذكرت من فرق بني إسرائيل الذين كانوا بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما حواليها . وقد بينا استعمال العرب نظير ذلك في كلامها بشواهده فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ألم تعلم} يا محمد {أن الله له ملك السماوات والأرض} يحكم فيهما بما يشاء، {يعذب من يشاء} من أهل معصيته، {ويغفر لمن يشاء}، يعني به المؤمنين، {والله على كل شيء} من العذاب والمغفرة {قدير}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ألم يعلم هؤلاء القائلون:"لَنْ تَمَسّنا النّارُ إلاّ أيّاما مَعْدُودَةً" الزّاعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه، أن الله مدبر ما في السموات وما في الأرض، ومصرّفه وخالقه، لا يمتنع شيء مما في واحدة منهما مما أراده لأن كلّ ذلك ملكه وإليه أمره، ولا نسب بينه وبين شيء مما فيها ولا مما في واحدة منهما فيحابيه بسبب قرابته منه فينجيه من عذابه وهو به كافر ولأمره ونهيه مخالف، أو يدخله النار وهو له مطيع لبعد قرابته منه ولكنه يعذّب من يشاء من خلقه في الدنيا على معصيته بالقتل والخسف والمسخ وغير ذلك من صنوف عذابه، ويغفر لمن يشاء منهم في الدنيا بالتوبة عليه من كفره ومعصيته، فينقذه من الهَلَكة وينجيه من العقوبة.
"وَاللّهُ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ": والله على تعذيب من أراد تعذيبه من خلقه على معصيته وغفران ما أراد غفرانه منهم باستنقاذه من الهلكة بالتوبة عليه وغير ذلك من الأمور كلها قادر، لأن الخلق خلقه والملك ملكه والعباد عباده. وخرج قوله: "ألَمْ تَعْلَمْ أن اللّهَ لَهُ مُلْكُ السّمَوَاتِ والأرْضِ "خطابا له صلى الله عليه وسلم، والمعنيّ به من ذكرت من فرق بني إسرائيل الذين كانوا بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما حواليها...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
الآية توقيف وتنبيه على العلة الموجبة لإنفاذ هذه الأوامر في المحاربين والسرقة، والإخبار بهذا التعذيب لقوم، والتوبة على آخرين وهي ملكه تعالى لجميع الأشياء، فهو بحق الملك لا معقب لحكمه ولا معترض عليه.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وغيره، أي لا قرابة بين الله تعالى وبين أحد توجب المحاباة حتى يقول القائل: نحن أبناء الله وأحباؤه، والحدود تقام على كل من يقارف موجب الحد. وقيل: أي له أن يحكم بما يريد؛ فلهذا فرق بين المحارب وبين السارق غير المحارب.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان معنى ذلك أنه لا اعتراض عليه سبحانه في شيء من ذلك ولا مانع، لأن قدرته تامة، ليس هو كمن يشاهد من الملوك الذين ربما يعجزون من اعتراض أتباعهم ورعاياهم عن تقريب بعض ما لم يباشر إساءة، وإبعاد بعض من لم يباشر إحساناً، فكيف بغير ذلك! قال تعالى مقرراً لذلك بتفرده في الملك: {ألم تعلم أن الله} أي الذي له جميع العز {له ملك السماوات} أي على علوها وارتفاع سمكها وانقطاع أسباب ما دونها منها {والأرض} أي أن الملك خالص له عن جميع الشوائب.
ولما كان إيقاع النقمة أدل على القدرة، وكان السياق لها لما تقدم من خيانة أهل الكتاب وكفرهم وقصة ابنيّ آدم والسرقة والمحاربة وغير ذلك، قدم قوله معللاً لفعل ما يشاء بتمام الملك لا بغيره من رعاية لمصالح أو غيرها: {يعذب من يشاء} أي من بني إسرائيل الذين ادعوا النبوة والمحبة وغيرهم وإن كان مطيعاً، أي له فعل ذلك، لأنه لا يقبح منه شيء {ويغفر لمن يشاء} أي وإن كان عمله موبقاً، لأنه لا يتصور منه ظلم ولا يسوغ عليه اعتراض.
ولما كان التقدير: لأنه قادر على ذلك، عطف عليه قوله: {والله} أي الذي له الإحاطة بكل كمال {على كل شيء} أي شيء {قدير} أي ليس هو كغيره من الملوك الذين قد يعجز أحدهم عن تقريب ابنه وتبعيد أعدى عدوه، وهذه القضية الضرورية ختم بها ما دعت المناسبة إلى ذكره من الأحكام، وكرَّ بها على أتم انتظام إلى أوائل نقوض دعواهم في قوله {بل أنتم بشر ممن خلق} [المائدة: 18] -.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
جعل الله تعالى هذه الآية ذيلا لهذه السياق، بين فيه ما ينبغي أن يحضر القلوب بعض تلك العبر والأحكام، فقال ما حاصل المراد منه: ألم تعلم أيها السامع لهذه الخطاب أن الله تعالى له ملك السماوات والأرض، يدبر الأمر فيهما بالحكمة والعدل، والرحمة والفضل، فكان من متعلقات اسمه العزيز الحكيم أن وضع هذا العقاب لكل من يسرق ما يعد به سارقا من ذكر أو أنثى، كما وضع ذلك العقاب للمحاربين المفسدين، ومن مقتضى اسمه الغفور الرحيم أن يغفر لمن تاب من هؤلاء وهؤلاء ويرحمه، إذا صدق في توبته وأصلح عمله، فهو بمقتضى أسمائه الحسنى، وصفاته العلى، يعذب من يشاء تعذيبه من الجناة تربية له، وتأمينا لعباده من شره، ويرحم من يشاء من التائبين والمصلحين برحمته وفضله، ترغيبا لعبادة في تزكية أنفسهم، وإصلاح ذات بينهم، وهو على كل شيء من التعذيب والرحمة قدير، لا يعجزه شيء في تدبير ملكه.
يجوز أن يكون الخطاب لكل من يسمع القرآن أو يقرأه. ويجوز أن يكون موجها إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والاستفهام فيه للتقدير، إي أنك تعلم هذا فتذكره وذكر به. وجعله ابن جرير لأهل الكتاب الذين كانوا في المدينة وجوارها ومن على شاكلتهم، الذين قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، لأن السياق الذي انتهى ببيان حد السرقة كان محاجتهم، ومنها إبطال دعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه بأنهم بشر من جملة خلقه، وأنه هو رب العباد ومالكهم المتصرف بأمرهم بالعدل والحكمة، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء كما تقدم، فكأن ابن جرير يرى أن ما ذكر من وضع الله الحدود والعقوبات في الدنيا، وبيان ما أعده من الخزي والعذاب للعصاة في الآخرة، ينتظم في سلك الدلائل على إبطال دعوى قولهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، وإثبات أنهم بشر من جملة خلقه يعذب من يشاء منهم بالشرع والفعل كما يعذب غيرهم، كما يرحم من يشاء. وتشهد بذلك شريعتهم ذات العقوبات القاسية، وما وقع عليهم أفرادا وجميعا من عذاب الدنيا بالحرب والسبي والأمراض.
وقد تقدم هنا ذكر العذاب على ذكر الرحمة خلافا لما تكرر في القرآن حتى في مثل هذا التركيب من تقديم الرحمة أو المغفرة على العذاب، ومنه الآية التي رد الله فيها على أهل الكتاب زعمهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، إذ قال {بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} [المائدة: 18]. وحكمة هذا التقديم ترتيب الآية على ما قبلها من بيان عقاب السارق أولا وذكر توبته ثانيا، فهي لا تنفي كون الرحمة المطلقة سابقة ومقدمة على العذاب المطلق.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جواب لمن يسأل عن انقلاب حال السارق من العقاب إلى المغفرة بعد التّوبة مع عظم جرمه بأنّ الله هو المتصرّف في السماوات والأرض وما فيهما، فهو العليم بمواضع العقاب ومواضع العفو.