ثم ذكر أنه يمتنع عليهم من ثلاثة أوجه ، أحدها : أنه ما{[21875]} ينبغي لهم ، أي : ليس هو من بُغْيتهم ولا من طلبتهم ؛ لأن من سجاياهم الفساد وإضلال العباد ، وهذا فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ونور وهدى وبرهان عظيم ، فبينه وبين الشياطين منافاة عظيمة ؛ ولهذا قال تعالى : { وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ }
وقوله : { وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ } أي : ولو انبغى لهم لما استطاعوا ذلك ، قال الله تعالى : { لَوْ أَنزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } [ الحشر : 21 ] .
وقوله : وَما تَنزّلَتْ بِهِ الشّياطِينُ يقول تعالى ذكره : وما تنزّلت بهذا القرآن الشياطين على محمد ، ولكنه ينزل به الروح الأمين وَما يَنْبَغي لَهُمْ يقول : وما ينبغي للشياطين أن ينزلوا به عليه ، ولا يصلح لهم ذلك وَما يَسْتَطيعُونَ يقول : وما يستطيعون أن ينزّلوا به ، لأنهم لا يصلون إلى استماعه في المكان الذي هو به من السماء إنّهُمْ عَنِ السّمْعِ لَمَعْزُولُونَ يقول : إن الشياطين عن سمع القرآن من المكان الذي هو به من السماء لمعزولون ، فكيف يستطيعون أن يتنزّلوا به . وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، في قوله : وَما تَنزّلَتْ بِهِ الشّياطِينُ قال : هذا القرآن . وفي قوله إنّهُمْ عَنِ السّمْعِ لَمَعْزُلُونَ قال : عن سمع السماء .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة ، بنحوه ، إلا أنه قال : عن سمع القرآن .
والقرّاء مجمعة على قراءة وَما تَنزّلَتْ بِهِ الشّياطِينُ بالتاء ورفع النون ، لأنها نون أصلية ، واحدهم شيطان ، كما واحد البساتين بستان . وذُكر عن الحسن أنه كان يقرأ ذلك : «وَما تَنزّلَتْ بِهِ الشّياطُونَ » بالواو ، وذلك لحن ، وينبغي أن يكون ذلك إن كان صحيحا عنه ، أن يكون توهم أن ذلك نظير المسلمين والمؤمنين ، وذلك بعيد من هذا .
وقوله { وما ينبغي لهم } أي ما يمكنهم ، وقد تجيء هذه اللفظة عبارة عما لا يمكن وعبارة عما لا يليق وإن كان ممكناً ، ولما جاء الله بالإسلام حرس السماء بالشهب الجارية إثر الشياطين فلم يخلص شيطان بشيء يلقيه كما كان يتفق لهم في الجاهلية ، وقرأ الجمهور «الشياطين » ، وروي عن الحسن أنه قرأ «الشياطون » وهي قراءة مردودة ، قال أبو حاتم هي غلط منه أو عليه وحكاها الثعلبي أيضاً عن ابن السميفع ، وذكر عن يونس بن حبيب أنه قال سمعت أعرابياً يقول دخلت بساتين من ورائها بساتون قال يونس فقلت ما أشبه هذه بقراءة الحسن .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وما ينبغي لهم} إن ينزلوا بالقرآن {وما يستطيعون} لأنه حيل بينهم وبين السمع بالملائكة والشهب، وذلك أنهم كانوا يستمعون إلى السماء قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بعث رمتهم الملائكة بالشهب. فذلك قوله سبحانه: {إنهم عن السمع لمعزولون}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 210]
وقوله:"وَما تَنزّلَتْ بِهِ الشّياطِينُ" يقول تعالى ذكره: وما تنزّلت بهذا القرآن الشياطين على محمد، ولكنه ينزل به الروح الأمين. "وَما يَنْبَغي لَهُمْ "يقول: وما ينبغي للشياطين أن ينزلوا به عليه، ولا يصلح لهم ذلك. "وَما يَسْتَطيعُونَ" يقول: وما يستطيعون أن ينزّلوا به، لأنهم لا يصلون إلى استماعه في المكان الذي هو به من السماء. "إنّهُمْ عَنِ السّمْعِ لَمَعْزُولُونَ" يقول: إن الشياطين عن سمع القرآن من المكان الذي هو به من السماء لمعزولون، فكيف يستطيعون أن يتنزّلوا به.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فكُذبوا بأنّ ذلك مما لا يتسهل للشياطين ولا يقدرون عليه.
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 210]
اعلم أنه تعالى لما احتج على صدق محمد صلى الله عليه وسلم بكون القرآن تنزيل رب العالمين، وإنما يعرف ذلك لوقوعه من الفصاحة في النهاية القصوى، ولأنه مشتمل على قصص المتقدمين من غير تفاوت، مع أنه عليه السلام لم يشتغل بالتعلم والاستفادة، فكان الكفار يقولون لم لا يجوز أن يكون هذا من إلقاء الجن والشياطين كسائر ما ينزل على الكهنة؟ فأجاب الله تعالى عنه بأن ذلك لا يتسهل للشياطين لأنهم مرجومون بالشهب معزولون عن استماع كلام أهل السماء...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
ثم نفى انبغاء ذلك والصلاحية، أي ولو فرض الإمكان لم يكونوا أهلاً له، ثم نفى قدرتهم على ذلك وأنه مستحيل في حقهم التنزل به، فارتقى من نفي الإمكان إلى نفي الصلاحية إلى نفي القدرة والاستطاعة، وذلك مبالغة مترتبة في نفي تنزيلهم به.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
ثم بين أنه لو انبغى لهم واستطاعوا حمله وتأديته، لما وصلوا إلى ذلك؛ لأنهم بمعزل عن استماع القرآن حال نزوله؛ لأن السماء ملئت حرسًا شديدًا وشهبا في مُدّة إنزال القرآن على رسوله، فلم يخلص أحد من الشياطين إلى استماع حرف واحد منه، لئلا يشتبه الأمر. وهذا من رحمة الله بعباده، وحفظه لشرعه، وتأييده لكتابه ولرسوله؛ ولهذا قال: {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان لا يلزم من عدم التلبس بالفعل عدم الصلاحية له قال: {وما ينبغي لهم} أي ما يصح وما يتصور منهم النزول بشيء منه لأنه خير كله وبركة، وهم مادة الشر والهلكة، فبينهما تمام التباين، وأنت سكينة ونور، وهم زلزلة وثبور، فلا إقبال لهم عليك، ولا سبيل بوجه إليك.
ولما كان عدم الانتفاء لا يلزم منه عدم القدرة قال: {وما يستطيعون} أي النزول به وإن اشتدت معالجتهم على تقدير أن يكون لهم قابلية لذلك.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
معنى: {وما ينبغي لهم} ما يستقيم وما يصح، أي لا يستقيم لهم تلقي كلام الله تعالى الذي الشأن أن يتلقاه الروح الأمين، وما يستطيعون تلقيه لأن النفوس الشيطانية ظلمانية خبيثة بالذات فلا تقبل الانتقاش بصورِ ما يجري في عالم الغيب، فإن قبول فيضان الحق مشروط بالمناسبة بين المبدأ والقابل. فضمير {ينبغي} عائد إلى ما عاد عليه ضمير {به}، أي ما ينبغي القرآن لهم، أي ما ينبغي أن ينزلوا به كما زعم المشركون.