معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَٱخۡفِضۡ جَنَاحَكَ لِمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (215)

قوله عز وجل :{ واخفض جناحك }

يعني ألن جانبك{ لمن اتبعك من المؤمنين*فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون }

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَٱخۡفِضۡ جَنَاحَكَ لِمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (215)

{ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } بلين جانبك ، ولطف خطابك لهم ، وتوددك ، وتحببك إليهم ، وحسن خلقك والإحسان التام بهم ، وقد فعل صلى الله عليه وسلم ذلك كما قال تعالى : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ } فهذه أخلاقه صلى الله عليه وسلم ، أكمل الأخلاق ، التي يحصل بها من المصالح العظيمة ، ودفع المضار ، ما هو مشاهد ، فهل يليق بمؤمن بالله ورسوله ، ويدعي اتباعه والاقتداء به ، أن يكون كلا على المسلمين ، شرس الأخلاق ، شديد الشكيمة عليهم ، غليظ القلب ، فظ القول ، فظيعه ؟ [ و ] إن رأى منهم معصية ، أو سوء أدب ، هجرهم ، ومقتهم ، وأبغضهم ، لا لين عنده ، ولا أدب لديه ، ولا توفيق ، قد حصل من هذه المعاملة ، من المفاسد ، وتعطيل المصالح ما حصل ، ومع ذلك تجده محتقرا لمن اتصف بصفات الرسول الكريم ، وقد رماه بالنفاق والمداهنة ، وقد كمَّل نفسه ورفعها ، وأعجب بعمله ، فهل هذا إلا من جهله ، وتزيين الشيطان وخدعه له ، ولهذا قال الله لرسوله : { فَإِنْ عَصَوْكَ } في أمر من الأمور ، فلا تتبرأ منهم ، ولا تترك معاملتهم ، بخفض الجناح ، ولين الجانب ، بل تبرأ من عملهم ، فعظهم عليه وانصحهم ، وابذل قدرتك في ردهم عنه ، وتوبتهم منه ، وهذا لدفع احتراز وهم من يتوهم ، أن قوله { وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ } للمؤمنين ، يقتضي الرضاء بجميع ما يصدر منهم ، ما داموا مؤمنين ، فدفع هذا بهذا والله أعلم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱخۡفِضۡ جَنَاحَكَ لِمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (215)

192

كذلك بين الله لرسوله كيف يعامل المؤمنين الذين يستجيبون لدعوة الله على يديه :

( واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ) . .

فهو اللين والتواضع والرفق في صورة حسية مجسمة . صورة خفض الجناح ، كما يخفض الطائر جناحيه حين يهم بالهبوط . وكذلك كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] مع المؤمنين طوال حياته فقد كان خلقه القرآن . وكان هو الترجمة الحية الكاملة للقرآن الكريم .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَٱخۡفِضۡ جَنَاحَكَ لِمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (215)

ثم قال تعالى آمرًا لرسوله ، صلوات الله وسلامه عليه{[21876]} أن ينذر عشيرته الأقربين ، أي : الأدنين إليه ، وأنه لا يُخَلِّص أحدًا منهم إلا إيمانهُ بربه عز وجل ، وأمره أن يلين جانبه لمن اتبعه من عباد الله المؤمنين . ومن عصاه من خلق الله كائنًا مَنْ كان فليتبرأ منه ؛ ولهذا قال : { . فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } . وهذه النِّذارة الخاصة لا تنافي العامة ، بل هي فرد من أجزائها ، كما قال : { لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ } [ يس : 6 ] ، وقال : { لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا } [ الشورى : 7 ] ، وقال : { وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ } [ الأنعام : 51 ] ، وقال : { لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا } [ مريم : 97 ] ، وقال : { لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } [ الأنعام : 19 ] ، كما قال : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } [ هود : 17 ] .

وفي صحيح مسلم : " والذي نفسي بيده ، لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة ، يهودي ولا نصراني ، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار " .

وقد وردت أحاديث كثيرة في نزول هذه الآية الكريمة ، فلنذكرها :

الحديث الأول :

قال الإمام أحمد ، رحمه الله : حدثنا عبد الله بن نُمَيْر ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مُرَّة ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : لما أنزل الله ، عز وجل : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } ، أتى النبي صلى الله عليه وسلم الصفا فصعد عليه ، ثم نادى : " يا صباحاه " . فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء إليه ، وبين رجل يبعث رسوله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا بني عبد المطلب ، يا بني فهر ، يا بني لؤي ، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل ، تريد أن تغير عليكم ، صدقتموني ؟ " . قالوا : نعم . قال : " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " . فقال أبو لهب : تبًّا لك سائر اليوم ، أما دعوتنا إلا لهذا ؟ وأنزل الله : { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } [ المسد : 1 ] .

ورواه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي ، من طرق ، عن الأعمش ، به{[21877]} .

الحديث الثاني :

قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا هشام ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : لما نزلت : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } ، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا فاطمة ابنة محمد ، يا صفية ابنة عبد المطلب ، يا بني عبد المطلب ، لا أملك لكم من الله شيئا ، سلوني من مالي ما شئتم " . انفرد بإخراجه مسلم{[21878]} .

الحديث الثالث :

قال أحمد : حدثنا معاوية بن عمرو ، حدثنا زائدة ، حدثنا عبد الملك بن عُمَير ، عن موسى بن طلحة ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : لما نزلت هذه الآية : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } ، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم [ قريشا ]{[21879]} ، فعمَّ وخصَّ ، فقال : " يا معشر قريش ، أنقذوا أنفسكم من النار . يا معشر بني كعب ، أنقذوا أنفسكم من النار . يا معشر بني عبد مناف ، أنقذوا أنفسكم من النار . يا معشر بني هاشم ، أنقذوا أنفسكم من النار . يا معشر بني عبد المطلب ، أنقذوا أنفسكم من النار . [ يا فاطمة بنت محمد ، أنقذي نفسك من النار ]{[21880]} ، فإني - والله - ما أملك لكم من الله شيئا ، إلا أن لكم رَحمًا سأبُلها بِبلالها " .

ورواه مسلم والترمذي ، من حديث عبد الملك بن عمير ، به{[21881]} . وقال الترمذي : غريب من هذا الوجه . ورواه النسائي من حديث موسى بن طلحة مرسلا لم يذكر فيه أبا هريرة{[21882]} . والموصول هو الصحيح . وأخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، وأبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة{[21883]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا محمد - يعني ابن إسحاق - عن أبي الزنَاد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا بني عبد المطلب ، اشتروا أنفسكم من الله . يا صفية عمة رسول الله ، ويا فاطمة بنت رسول الله ، اشتريا أنفسكما من الله ، لا أُغني عنكما من الله شيئًا ، سلاني من مالي ما شئتما " .

تفرد به من هذا الوجه{[21884]} . وتفرد به أيضا ، عن معاوية ، عن زائدة ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه{[21885]} . ورواه أيضًا عن حسن ، ثنا ابن لَهِيعة ، عن{[21886]} الأعرج : سمعت أبا هريرة مرفوعا{[21887]} .

وقال أبو يعلى : حدثنا سُوَيد بن سَعيد ، حدثنا{[21888]} ضِمَام بن إسماعيل ، عن موسى بن وَرْدَان ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " يا بني قُصَي ، يا بني هَاشم ، يا بني عبد مناف . أنا النذير والموت المغير . والساعة الموعد " {[21889]} .

الحديث الرابع :

قال أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا التيمي ، عن أبي عثمان ، عن قَبِيصة بن مُخَارق وزُهَير بن عمرو قالا لما نزلت : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } صَعد رسول الله صلى الله عليه وسلم رَضْمَةً من جبل على أعلاها حجر ، فجعل ينادي : " يا بني عبد مناف ، إنما أنا نذير ، إنما مثلي ومثلكم كرجل رأى العدو ، فذهب يربأ أهله ، يخشى أن يسبقوه ، فجعل ينادي ويهتف : يا صباحاه " .

ورواه مسلم والنسائي ، من حديث سليمان بن طِرْخان التيمي ، عن أبي عثمان عبد الرحمن بن مُل النَّهْديّ ، عن قَبِيصة وزُهيَر بن عَمْرو الهلالي ، به{[21890]} .

الحديث الخامس :

قال الإمام أحمد : حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا شَرِيك عن الأعمش ، عن المْنهَال ، عن عباد بن عبد الله الأسدي ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : لما نزلت هذه الآية : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } جمع النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته ، فاجتمع ثلاثون ، فأكلوا وشربوا قال : وقال لهم : " من يَضْمَنُ عَني ديني ومواعيدي ، ويكون معي في الجنة ، ويكون خليفتي في أهلي ؟ " . فقال رجل - لم يسمه شريك - يا رسول الله ، أنت كنت بحرًا{[21891]} من يقوم بهذا ؟ قال : ثم قال الآخر ، قال : فعرض ذلك على أهل بيته ، فقال عَليٌ : أنا{[21892]} .

طريق أخرى بأبسط من هذا السياق : قال أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا أبو عَوَانة ، عن عثمان بن المغيرة ، عن أبي صادق ، عن ربيعة بن ناجذ ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم - أو دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم - بني عبد المطلب ، وهم رَهْطٌ ، كلهم يأكل الجذعة ويشرب الفّرَق - قال : وصنع{[21893]} لهم مدًا من طعام فأكلوا حتى شبعوا - قال : وبقي الطعام كما هو كأنه لم يمس . ثم دعا بغُمَرٍ{[21894]} فشربوا حتى رووا ، وبقي الشراب كأنه لم يمس - أولم يشرب - وقال : " يا بني عبد المطلب ، إني بعثت إليكم خاصة وإلى الناس عامة ، وقد رأيتم من هذه الآية ما رأيتم ، فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ؟ " . قال : فلم يقم إليه أحد . قال : فقمتُ إليه - وكنت أصغر القوم - قال : فقال : " اجلس " . ثم قال ثلاث مرات ، كل ذلك أقوم إليه فيقول لي : " اجلس " . حتى كان في الثالثة ضرب بيده على يدي{[21895]} .

طريق أخرى أغرب وأبسط من هذا السياق بزيادات أخر : قال الحافظ أبو بكر البيهقي في " دلائل النبوة " : أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا أحمد بن عبد الجبار ، حدثنا يُونُس بن بُكَيْر ، عن محمد بن إسحاق قال : فحدثني من سمع عبد الله بن الحارث بن نوفل - واستكتمني اسمه - عن ابن عباس ، عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، قال : لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عرفت أنّي إن بادأتُ بها قومِي ، رأيت منهم ما أكره ، فَصَمَتُّ . فجاءني جبريل ، عليه السلام ، فقال : يا محمد ، إن لم تفعل ما أمرك به ربك عذبك ربك " . قال علي ، رضي الله عنه : فدعاني فقال : " يا علي ، إن الله قد أمرني [ أن ]{[21896]} أنذر عشيرتي الأقربين ، فعرفت أني إن بادأتهم بذلك رأيت منهم ما أكره ، فَصَمت عن ذلك ، ثم جاءني جبريل فقال : يا محمد ، إن لم تفعل ما أمرت به عذبك ربك . فاصنع لنا يا علي شاة على صاع من طعام ، وأعدّ لنا عُسَّ لبن ، ثم اجمع لي{[21897]} بني عبد المطلب " . ففعلتُ فاجتمعوا له ، وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصون رجلا . فيهم أعمامه : أبو طالب ، وحمزة ، والعباس ، وأبو لهب الكافر الخبيث . فقدّمت إليهم تلك الجَفْنَةَ ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حِذْيَة فشقها بأسنانه ثم رمى بها في نواحيها ، وقال : " كلوا بسم الله " . فأكل القومُ حتى نَهلوا عنه ما يرى إلا آثار أصابعهم ، والله إن كان الرجل منهم ليأكل مثلها . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اسقهم يا علي " . فجئت بذلك القَعب فشربوا منه حتى نَهِلُوا جميعًا ، وايم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله . فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم ، بَدَره أبو لهب إلى الكلام فقال : لَهَدّ ما سحركم صاحبكم . فتفرقوا ولم يكلّمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما كان الغدُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا علي ، عُدْ لنا بمثل الذي كنت صنعت بالأمس من الطعام والشراب ؛ فإن هذا الرجلّ قد بَدَرني إلى ما سمعتَ قبل أن أكلم القوم " . ففعلت ، ثم جمعتهم له ، فصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صنع بالأمس ، فأكلوا حتى نَهِلُوا عنه ، وايم الله إن كان الرجل منهم ليأكل مثلها . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اسقهم يا علي " . فجئت بذلك القَعب فشربوا منه حتى نهلوا جميعًا . وايم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله . فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم بَدَره أبو لهب بالكلام فقال : لَهَدَّ ما سحركم صاحبكم . فتفرقوا ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما كان الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا علي ، عُدْ لنا بمثل الذي كنت صنعتَ لنا بالأمس من الطعام والشراب ؛ فإن هذا الرجل قد بَدَرني إلى ما سمعتَ قبل أن أكلم القوم " . ففعلت ، ثم جمعتهم له فصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم [ كما صنع ]{[21898]} بالأمس ، فأكلوا حتى نهلوا عنه ، ثم سقيتهم من ذلك القعب حتى نهلوا عنه ، وايم الله إن كان الرجل منهم ليأكل مثلها ويشرب مثلها ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا بني عبد المطلب ، إني - والله - ما أعلم شابًا من العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به ، إني قد جئتكم بأمر الدنيا والآخرة " .

قال أحمد بن عبد الجبار : بلغني أن ابن إسحاق إنما{[21899]} سمعه من عبد الغفار بن القاسم أبي مريم ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الله بن الحارث{[21900]} .

وقد رواه أبو جعفر بن جرير ، عن ابن حميد ، عن سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن عبد الغفار بن القاسم ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الله بن الحارث ، عن ابن عباس ، عن علي بن أبي طالب ، فذكر مثله ، وزاد بعد قوله : " إني جئتكم بخير الدنيا والآخرة " . " وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه ، فأيكم يؤازرني{[21901]} على هذا الأمر على أن يكون أخي ، وكذا وكذا " ؟ قال : فأحجم القوم عنها جميعًا ، وقلت - وإني لأحدثهم سنًا ، وأرمصُهم عينا ، وأعظمهم بطنا ، وأحمشهم ساقا . أنا يا نبي الله ، أكون وزيرك عليه ، فأخذ يَرْقُبُني ثم قال : " إن هذا أخي ، وكذا وكذا ، فاسمعوا له وأطيعوا " . قال : فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع{[21902]} .

تفرد بهذا السياق عبد الغفار بن القاسم أبي مريم ، وهو متروك كذاب شيعي ، اتهمه علي بن المديني وغيره بوضع الحديث ، وضعّفه الأئمة رحمهم الله .

طريق أخرى : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا الحسين بن عيسى بن مَيْسَرة الحارثي ، حدثنا عبد الله بن عبد القدوس ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الله بن الحارث قال : قال علي رضي الله عنه : لما نزلت هذه الآية : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } ، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اصنع لي رجل شاة بصاع من طعام وإناء لبنا " . قال : ففعلت ، ثم قال : " ادع بني هاشم " . قال : فدعوتهم وإنهم يومئذ لأربعون غير رجل - أو : أربعون ورجل - قال : وفيهم عشرة كلهم يأكل الجذَعَة بإدامها . قال : فلما أتوا بالقصعة أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذرْوَتها ثم قال : " كلوا " ، فأكلوا حتى شبعوا ، وهي على هيئتها{[21903]} لم يرزؤوا منها إلا يسيرًا ، قال : ثم أتيتهم بالإناء فشربوا حتى رَوُوا . قال : وفَضَل فَضْلٌ ، فلما فرغوا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتكلم ، فبدرُوه الكلام ، فقالوا : ما رأينا كاليوم في السحر . فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : " اصنع [ لي ]{[21904]} رجل شاة بصاع من طعام " . فصنعت ، قال : فدعاهم ، فلما أكلوا وشربوا ، قال : فبدروه فقالوا مثل مقالتهم الأولى ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال لي : " اصنع [ لي ]{[21905]} رجل شاة بصاع من طعام . فصنعت ، قال : فجمعتهم ، فلما أكلوا وشربوا بَدَرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام فقال : " أيكم يقضي عني دَيني{[21906]} ويكون خليفتي في أهلي ؟ " . قال : فسكتوا وسكت العباس خشية أن يحيط ذلك بماله ، قال : وسكتُّ أنا لسِنّ العباس . ثم قالها مرة أخرى فسكت العباس ، فلما رأيت ذلك قلت : أنا يا رسول الله . [ فقال : " أنت " ] {[21907]} قال : وإني يومئذ لأسوأهم هيئة ، وإني لأعمش العينين ، ضخم البطن ، حَمْش الساقين .

فهذه طرق متعددة لهذا الحديث عن علي ، رضي الله عنه . ومعنى سؤاله ، عليه الصلاة والسلام{[21908]} لأعمامه وأولادهم أن يقضوا عنه دينه ، ويخلفوه في أهله ، يعني إن قتل في سبيل الله ، كأنه خشي إذا قام بأعباء الإنذار أن يقتل ، ولما أنزل الله عز وجل : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } [ المائدة : 67 ] ، فعند ذلك أمِن .

وكان أولا يحرس حتى نزلت هذه الآية : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } . ولم يكن في بني هاشم إذ ذاك أشد إيمانا وإيقانا وتصديقا لرسول الله صلى الله عليه وسلم من علي ، رضي الله عنه ؛ ولهذا{[21909]} بدرهم إلى التزام ما طلب منهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، ثم كان بعد هذا - والله أعلم - دعاؤه الناس جَهرًة على الصفا ، وإنذاره لبطون قريش عموما وخصوصا ، حتى سَمّى مَنْ سَمَّى من أعمامه وعماته وبناته ، لينبه بالأدنى على الأعلى ، أي : إنما أنا نذير ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .

وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الواحد الدمشقي - غير منسوب - من طريق عمرو بن سَمُرَةَ ، عن محمد بن سُوقَةَ ، عن عبد الواحد الدمشقي قال : رأيت أبا الدرداء ، رضي الله عنه ، يحدث الناس ويفتيهم ، وولده إلى جنبه ، وأهل بيته جلوس في جانب المسجد يتحدثون ، فقيل له : ما بال الناس يرغبون فيما عندك من العلم ، وأهل بيتك جلوس لاهين ؟ فقال : لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أزهد الناس في الدنيا الأنبياء ، وأشدهم عليهم الأقربون " . وذلك فيما أنزل الله ، عز وجل : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } ، ثم قال : " إن أزهد الناس في العالم أهله حتى يفارقهم " . ولهذا قال [ الله تعالى ] :{[21910]} { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ . وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ . فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } {[21911]} .


[21876]:- في ف ، أ : "صلوات الله عليه وسلامه".
[21877]:- صحيح البخاري برقم (4801) وصحيح مسلم برقم (208) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11714) وسنن الترمذي برقم (3363).
[21878]:- المسند (6/187) وصحيح مسلم برقم (205).
[21879]:- زيادة من ف ، أ ، والمسند.
[21880]:- زيادة من ف ، أ ، والمسند.
[21881]:- المسند (2/360) وصحيح مسلم برقم (204) وسنن الترمذي برقم (3185).
[21882]:- سنن النسائي (6/248).
[21883]:- صحيح البخاري برقم (4771) وصحيح مسلم برقم (206).
[21884]:- المسند (2/448).
[21885]:- المسند (2/398).
[21886]:- في ف : "ثنا".
[21887]:- المسند (2/350).
[21888]:- في ف : "عن".
[21889]:- مسند أبي يعلى (11/10) وسويد بن سعيد متكلم فيه.
[21890]:- المسند (5/60) وصحيح مسلم برقم (207) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11379).
[21891]:- في أ : "تجري".
[21892]:- المسند (1/111) وقال الهيثمي في المجمع (8/302) "رجال أحمد رجال الصحيح ، غير شريك وهو ثقة".
[21893]:- في ف ، أ : "فصنع".
[21894]:- في ف ، أ : "بعس".
[21895]:- المسند (1/159) وقال الهيثمي في المجمع (8/302) "رجاله ثقات".
[21896]:- زيادة من ف ، أ ، ودلائل النبوة.
[21897]:- في ف : "لنا".
[21898]:- زيادة من ف ، أ ، ودلائل النبوة.
[21899]:- في ف : "لما".
[21900]:- دلائل النبوة (2/178).
[21901]:- في ف : "وازرني".
[21902]:- تفسير الطبري (19/40).
[21903]:- في ف : "وهي كهيئتها".
[21904]:- زيادة من ف.
[21905]:- زيادة من ف.
[21906]:- في ف : "ديني عني".
[21907]:- زيادة من ف.
[21908]:- في ف : "صلى الله عليه وسلم".
[21909]:- في ف : "فلهذا".
[21910]:- زيادة من أ.
[21911]:- تاريخ دمشق (10/587 المخطوط).

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَٱخۡفِضۡ جَنَاحَكَ لِمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (215)

معترض بين الجملتين ابتداراً لكرامة المؤمنين قبل الأمر بالتبرؤ من الذين لا يؤمنون ، وبعد الأمر بالإنذار الذي لا يخلو من وقع أليم في النفوس .

وخفض الجناح : مثَل للمعاملة باللِّين والتواضع . وقد تقدم عند قوله تعالى : { واخفض جناحك للمؤمنين } في سورة الحجر ( 88 ) ، وقوله : { واخفض لهما جناح الذل من الرحمة } في سورة الإسراء ( 24 ) . والجَناح للطائر بمنزلة اليدين للدواب ، وبالجناحين يكون الطيران .

و { من المؤمنين } بيان { لمن اتبعك } فإن المراد المتابعة في الدين وهي الإيمان . والغرض من هذا البيان التنويه بشأن الإيمان كأنه قيل : واخفض جناحك لهم لأجل إيمانهم كقوله تعالى : { ولا طائرٍ يطير بجناحيه } [ الأنعام : 38 ] وجبر لخاطر المؤمنين من قرابته . ولذلك لما نادى في دعائه صفيةَ قال : « عمة رسول الله » ولما نادى فاطمة قال : « بنت رسول الله » تأنيساً لهما ، فهذا من خفض الجناح ، ولم يقل مثل ذلك للعباس لأنه كان يومئذ مشركاً .