وفي ظل هذا المشهد الكامد المكروب يخاطب هؤلاء الكارهين للحق ، المعرضين عن الهدى ، الصائرين إلى هذا المصير ؛ ويعجب من أمرهم على رؤوس الأشهاد ، في أنسب جو للتحذير والتعجيب
( لقد جئناكم بالحق ، ولكن أكثركم للحق كارهون . أم أبرموا أمراً ? فإنا مبرمون . أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم ? بلى ورسلنا لديهم يكتبون ) . .
وكراهة الحق هي التي كانت تحول بينهم وبين اتباعه ، لا عدم إدراك أنه الحق ، ولا الشك في صدق الرسول الكريم ؛ فما عهدوا عليه كذباً قط على الناس ، فكيف يكذب على الله ويدعي عليه ما يدعيه ?
والذين يحاربون الحق لا يجهلون في الغالب أنه الحق ، ولكنهم يكرهونه ، لأنه يصادم أهواءهم ، ويقف
في طريق شهواتهم ، وهم أضعف من أن يغالبوا أهواءهم وشهواتهم ؛ ولكنهم أجرأ على الحق وعلى دعاته ! فمن ضعفهم تجاه الأهواء والشهوات يستمدون القوة على الحق والاجتراء على الدعاة !
لهذا يهددهم صاحب القوة والجبروت ، العليم بما يسرون وما يمكرون :
ثم ذكر سبب شقوتهم وهو مخالفتهم للحق ومعاندتهم له فقال : { لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ } أي : بيناه لكم ووضحناه وفسرناه ، { وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } أي : ولكن كانت سجاياكم لا تقبله ولا تقبل عليه ، وإنما تنقاد للباطل وتعظمه ، وتصد عن الحق وتأباه ، وتبغض أهله ، فعودوا على أنفسكم بالملامة ، واندموا حيث لا تنفعكم{[26143]} الندامة .
وقوله : { لقد جئناكم } الآية ، يحتمل أن يكون من قول مالك لأهل النار ، ويكون قوله : { جئناكم } ( على حد ما يدخل أحد جملة الرئيس كناية عن نفسه في فعل الرئيس فيقول غلبناكم وفعلنا بكم ونحو هذا ، ثم ينقطع كلام مالك في قوله : { كارهون } ويحتمل أن يكون قوله : { جئناكم } من قول الله تعالى لقريش بعقب حكاية أمر الكفار مع مالك ، وفي هذا توعد وتخويف فصيح ، بمعنى انظروا كيف تكون حالكم ، ثم تتصل الآية على هذا بما بعدها من أمر قريش .
جملة { لقد جئناكم بالحق } إلى آخرها في موضع العلة لِجملة { إنكم ماكثون } باعتبار تمَام الجملة وهو الاستدراك بقوله : { ولكن أكثركم للحق كارهون } .
وضمير { جئناكم } للملائكة ، والحقُ : الوحي الذي نزل به جبريل فنسب مالك المجيء بالحق إلى جَمْععِ الملائكة على طريقة اعتزاز الفريق والقبيلة بمزايا بعضها ، وهي طريقة معروفة في كلام العرب كقول الحارث بن حلزة :
وفككْنا غُلّ امرىء القيس عنه *** بعد مَا طال حبسه والعَناء{[379]}
وإنما نسبت كراهة الحق إلى أكثرهم دون جميعهم لأن المشركين فريقان أحدهما سادة كبراء لملة الكفر وهم الذين يصدون الناس عن الإيمان بالإرهاب والترغيب مثل أبي جهل حين صَدَّ أبَا طالب عند احتضاره عن قول لا إله إلا الله وقال : أترغب عن ملة عبد المطلب ، وثانيهما دهماء وعامة وهم تبع لأيمة الكفر . وقد أشارت إلى ذلك آيات كثيرة منها قوله في سورة البقرة ( 166 ) { إذ تبرَّأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا } الآيات فالفريق الأول هم المراد من قوله : { ولكن أكْثَرُكُمْ للحق كارهون } وأولئك إنما كرهوا الحق لأنه يرمي إلى زوال سلطانهم وتعطيل منافعهم .
وتقديم { للحق } على { كارهون } للاهتمام بالحق تنويهاً به ، وفيه إقامة الفاصلة أيضاً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لقد جئناكم بالحق} في الدنيا: يعني التوحيد، {ولكن أكثركم للحق كارهون}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"لَقَدْ جِئْناكُمْ بالحَقّ" يقول: لقد أرسلنا إليكم يا معشر قريش رسولنا محمدا بالحق...
"وَلَكِنّ أكْثَرَكُمْ لِلْحَقّ كارِهُونَ" يقول تعالى ذكره: ولكن أكثرهم لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الحقّ كارهون.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{لقد جئناكم بالحق} هذا على إثر ما ذكر: {إنا لننصر رسلنا} [غافر: 51] على إثر قوله: {أوَلم تك تأتيكم رُسلكم بالبينات} الآية [غافر: 50] يحتمل أن يكون القولان جميعا من الله تعالى؛ أعني قوله تعالى: {لقد جئناكم بالحق} وقوله تعالى: {إنا لننصر رسلنا} والله أعلم. ويكون أن يكون العذاب جميعا من الملائكة؛ إذ جائز إضافة الرسل إلى الملائكة، إذ هم رسل كقول الناس: رسولنا فعلى كذا {لقد جئناكم بالحق} الحق كل ما يُحمد عليه، ويحمد هو عاقبة ذلك الفعل، والباطل كل ما يُذمّ عليه فاعله، ويذمّ هو عاقبته.
ثم الحق المذكور يحتمل القرآن، ويحتمل الحق ما تركوا اتّباع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما دعاهم إليه. ويقولون: الحق، هو الذي عليه آباؤنا {وإنا على آثارهم مقتدُون} [الزخرف: 23]. ثم قال: {قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم} [الزخرف: 24] وقال ههنا: {لقد جئناكم بالحق} أي جئناكم بما هو أهدى وأحق مما عليه آباؤكم.
{ولكن أكثركم للحق كارهون} فإن قيل: كيف قال: {ولكن أكثرهم للحق كارهون} وإنما خاطب به أهل النار، وكانوا جميعا كارهين للحق؟ نقول: إنه يُخرّج على وجهين: أحدهما: أن أكثرهم قد عرفوا أنه الحق، لكنهم كرهوا اتباعه والانقياد له عنادا منهم ومكابرة بعد ظهور الحق عندهم وتبيّنه لديهم مخافة ذهاب الرئاسة عنهم وزوال مأكلتهم، ولم يظهر لأقلّهم، ولم يعرفوه.
والثاني: أن يكون ما ذكر من كراهة أكثرهم للحق بحق الطّباع؛ كان في طباع أكثرهم كراهة ذلك الحق.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
لما سألوا مالكاً أن يسأل الله تعالى القضاء عليهم: أجابهم الله بذلك.
{كارهون} لا تقبلونه وتنفرون منه وتشمئزون منه؛ لأنّ مع الباطل الدعة، ومع الحق التعب...
ثم بين تعالى أن مالكا لما أجابهم بقوله {إنكم ماكثون} ذكر بعده ما هو كالعلة لذلك الجواب فقال {لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون} والمراد نفرتهم عن محمد وعن القرآن وشدة بغضهم لقبول الدين الحق.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
يحتمل أن يكون هذا من قول مالك لهم، أي إنكم ماكثون في النار؛ لأنا جئناكم في الدنيا بالحق فلم تقبلوا.
" ولكن أكثركم "قال ابن عباس:"ولكن أكثركم "أي ولكن كلكم. وقيل: أراد بالكثرة الرؤساء والقادة منهم، وأما الأتباع فما كان لهم أثر.
"للحق" أي للإسلام ودين الله "كارهون"...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ} أي: بيناه لكم ووضحناه وفسرناه.
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} أي: ولكن كانت سجاياكم لا تقبله ولا تقبل عليه، وإنما تنقاد للباطل وتعظمه، وتصد عن الحق وتأباه، وتبغض أهله، فعودوا على أنفسكم بالملامة، واندموا حيث لا تنفعكم الندامة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ذكر سبحانه الساعة عند ذكر عيسى عليه الصلاة والسلام فقال {وإنه لعلم للساعة} وأكد أمرها وشرح بعض أحوالها إلى أن ختم بما دل على انحلال عزائمهم ولين شكائمهم، وكانوا غير مقرين بذلك، قال مؤكداً جواباً لمن يبصر بعض البصر فيقول: أحق هذا؟ ويتوقع الجواب: {لقد جئناكم} أي في هذه السورة خصوصاً وجميع القرآن عموماً، سمى مجيء الرسل مجيئاً لهم لما لمجيئهم من العظمة التي أشارت إليها النون.
{بالحق} الكامل في الحقية، ولما كان ظهور حقيته بحيث لا يخفى على أحد ولكن شدة البغض وشدة الحب تريان الأشياء على غير ما هي عليه، قال إشارة إلى ذلك: {ولكن أكثركم} أي أيها المخاطبون {للحق كارهون} لما فيه من المنع عن الشهوات فلذلك أنتم تقولون: إنه ليس بحق لأجل كراهتكم فقط، لا لأجل أن في حقيته نوعاً من الخفاء.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وكراهة الحق هي التي كانت تحول بينهم وبين اتباعه، لا عدم إدراك أنه الحق، ولا الشك في صدق الرسول الكريم؛ فما عهدوا عليه كذباً قط على الناس، فكيف يكذب على الله ويدعي عليه ما يدعيه؟...والذين يحاربون الحق لا يجهلون في الغالب أنه الحق، ولكنهم يكرهونه؛ لأنه يصادم أهواءهم، ويقف في طريق شهواتهم، وهم أضعف من أن يغالبوا أهواءهم وشهواتهم؛ ولكنهم أجرأ على الحق وعلى دعاته! فمن ضعفهم تجاه الأهواء والشهوات يستمدون القوة على الحق والاجتراء على الدعاة!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{جئناكم} للملائكة، والحقُ: الوحي الذي نزل به جبريل فنسب مالك المجيء بالحق إلى جَمْعِ الملائكة على طريقة اعتزاز الفريق والقبيلة بمزايا بعضها، وهي طريقة معروفة في كلام العرب...
وإنما نسبت كراهة الحق إلى أكثرهم دون جميعهم لأن المشركين فريقان أحدهما سادة كبراء لملة الكفر وهم الذين يصدون الناس عن الإيمان بالإرهاب والترغيب مثل أبي جهل حين صَدَّ أبَا طالب عند احتضاره عن قول لا إله إلا الله وقال: أترغب عن ملة عبد المطلب، وثانيهما دهماء وعامة وهم تبع لأيمة الكفر. وقد أشارت إلى ذلك آيات كثيرة منها قوله في سورة البقرة (166) {إذ تبرَّأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا} الآيات فالفريق الأول هم المراد من قوله: {ولكن أكْثَرُكُمْ للحق كارهون} وأولئك إنما كرهوا الحق لأنه يرمي إلى زوال سلطانهم وتعطيل منافعهم.
وتقديم {للحق} على {كارهون} للاهتمام بالحق تنويهاً به، وفيه إقامة الفاصلة أيضاً.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
للتعبير «بالحق» معنى واسع يشمل كل الحقائق المصيرية، وإن كانت مسألة التوحيد والمعاد والقرآن تأتي في الدرجة الأولى.
وهذا التعبير يشير في الحقيقة إلى أنّكم لم تخالفوا الأنبياء فحسب، وإنّما خالفتم الحق في الواقع، وهذه المخالفة هي التي ساقتكم إلى العذاب الخالد الأبدي...