قول تعالى ذكره : عن أيّ شيء يتساءل هؤلاء المشركون بالله ورسوله من قريش يا محمد ؟ وقيل ذلك له صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن قريشا جعلت فيما ذُكر عنها تختصم وتتجادل ، في الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإقرار بنبوّته ، والتصديق بما جاء به من عند الله ، والإيمان بالبعث ، فقال الله لنبيه : فيم يتساءل هؤلاء القوم ويختصمون ؟ و «في » و «عن » في هذا الموضع بمعنى واحد . ذكر من قال ما ذكرت :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع بن الجراح ، عن مِسعر ، عن محمد بن جحادة ، عن الحسن ، قال : لما بُعِث النبيّ صلى الله عليه وسلم جعلوا يتساءلون بينهم ، فأنزل الله : عَمّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النّبَأ العَظِيم يعني : الخبر الْعظيم .
قال أبو جعفر : ثم أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن الذي يتساءلونه ، فقال : يتساءلون عن النبأ العظيم : يعني : عن الخبر العظيم .
واختلف أهل التأويل في المعنيّ بالنبأ العظيم ، فقال بعضهم : أريد به القرآن . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : عَن النّبَأ الْعَظِيمِ قال : القرآن .
وقال آخرون : عُنِي به البعث . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : عَنِ النّبَأ الْعَظِيمِ وهو البعث بعد الموت .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن سعيد ، عن قتادة عَنِ النّبَأ الْعَظِيمِ قال : النبأ العظيم : البعث بعد الموت .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : عَمّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النّبَأ الْعَظِيمِ الّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ قال : يوم القيامة قال : قالوا هذا اليوم الذي تزعمون أنا نحيا فيه وآباؤنا ، قال : فهم فيه مختلفون ، لا يؤمنون به ، فقال الله : بل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون ، يوم القيامة لا يؤمنون به .
وكان بعض أهل العربية يقول : معنى ذلك : عمّ يتحدّث به قريش في القرآن ، ثم أجاب فصارت عمّ كأنها في معنى : لأيّ شيء يتساءلون عن القرآن ، ثم أخبر فقال : الّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ بين مصدق ومكذّب ، فذلك إخلافهم ، وقوله : الّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ يقول تعالى ذكره : الذي صاروا هم فيه مختلفون فريقين : فريق به مصدّق ، وفريق به مكذّب . يقول تعالى ذكره : فتساؤلهم بينهم في النبأ الذي هذه صفته . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سعيد ، عن قتادة عن النبأ الّذِي همْ فِيهِ مُخْتَلِفونَ البعث بعد الموت ، فصار الناس فيه فريقين : مصدّق ومكذّب ، فأما الموت فقد أقرّوا به لمعاينتهم إياه ، واختلفوا في البعث بعد الموت .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة الّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ : صار الناس فيه رجلين : مصدّق ، ومكذّب ، فأما الموت فإنهم أقروا به كلهم ، لمعاينتهم إياه ، واختلفوا في البعث بعد الموت .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة الّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ قال : مصدّق ومكذّب .
و { النبأ العظيم } قال ابن عباس وقتادة هو الشرع الذي جاء به محمد ، وقاله مجاهد وقتادة : هو القرآن خاصة ، وقال قتادة أيضاً : هو البعث من القبور ، ويحتمل الضمير في { يتساءلون } أن يريد جميع العالم فيكون الاختلاف حينئذ يراد به تصديق المؤمنين وتكذيب الكافرين ونزغات الملحدين ، ويحتمل أن يراد بالضمير الكفار من قريش ، فيكون الاختلاف شك بعض وتكذيب بعض . وقولهم سحر وكهانة وشعر وجنون وغير ذلك ، وقال أكثر النحاة قوله : { عن النبإ العظيم } ، متعلق ب { يتساءلون } الظاهر{[11560]} كأنه قال : لم يتساءلون عن هذا النبأ ، وقال الزجاج : الكلام تام في قوله : { عم يتساءلون } ثم كان مقتضى القول أن يجيب مجيب فيقول : يتساءلون { عن النبإ العظيم } ، فاقتضى إيجاز القرآن وبلاغته أن يبادر المحتج بالجواب الذي تقتضيه الحال والمجاورة اقتضاباً للحجة وإسراعاً إلى موضع قطعهم ، وهذا نحو قوله تعالى : { قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد }{[11561]} [ الأنعام : 19 ] وأمثلة كثيرة ، وقد وقع التنبيه عليها في مواضعها .
وضمير { هم فيه مختلفون } يَجري فيه الوجهان المتقدمان في قوله : { يتساءلون } . واختلافهم في النبأ اختلافهم فيما يصفونه به ، كقول بعضهم : { إن هذا إلا أساطير الأولين } [ الأنعام : 25 ] وقول بعضهم : هذا كلام مجنون ، وقول بعضهم : هذا كذب ، وبعضهم : هذا سحر ، وهم أيضاً مختلفون في مراتب إنكاره . فمنهم من يقطع بإنكار البعث مثل الذين حكى الله عنهم بقوله : { وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مُزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد أفترى على الله كذباً أم به جنة } [ سبأ : 7 8 ] ، ومنهم من يشكّون فيه كالذين حكى الله عنهم بقوله : { قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين } [ الجاثية : 32 ] على أحد التفسيرين .
وجيء بالجملة الإسمية في صلة الموصول دون أن يقول : الذي يَختلفون فيه أو نحو ذلك ، لتفيد الجملة الإسمية أن الاختلاف في أمر هذا النبأ متمكن منهم ودائم فيهم لدلالة الجملة الإسمية على الدوام والثبات .
وتقديم { عنه } على { معرضون } [ ص : 68 ] للاهتمام بالمجرور وللإشعار بأن الاختلاف ما كان من حقه أن يتعلق به ، مع ما في التقديم من الرعاية على الفاصلة .