قوله تعالى : { فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين } قال الكلبي : الزلزلة ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره : فتح الله عليهم باباً من جهنم ، فأرسل عليهم حراً شديداً ، فأخذ بأنفاسهم ولم ينفعهم ظل ولا ماء ، فكانوا يدخلون الأسراب ليبردوا فيها ، فإذا دخلوها وجدوها أشد حراً من الظاهر ، فخرجوا هرباً إلى البرية ، فبعث الله سحابة فيها ريح طيبة ، فأظلتهم ، فنادى بعضهم بعضا وهي الظلة ، فوجدوا لها برداً ونسيماً ، حتى اجتمعوا تحت السحابة ، رجالهم ونساؤهم وصبيانهم ، ألهبها الله عليهم ناراً ، ورجفت بهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجراد المقلي ، وصاروا رماداً . وروي أن الله تعالى حبس عنهم الريح سبعة أيام ، ثم سلط عليهم الحر ، قال يزيد الجريري : سلط الله عليهم الحر سبعة أيام ، ثم رفع لهم جبل من بعيد ، فأتاه رجل فإذا تحته أنهار وعيون ، فاجتمعوا تحته كلهم فوقع ذلك الجبل عليهم ، فذلك قوله { عذاب يوم الظلة } [ الشعراء : 89 ] ، قال قتادة : بعث الله شعيباً إلى أصحاب الأيكة وأصحاب مدين ، أما أصحاب الأيكة فأهلكوا بالظلة ، وأما أصحاب مدين فأخذتهم الصيحة ، صاح بهم جبريل عليه السلام صيحة فهلكوا جميعاً . قال أبو عبد الله البجلي : كان أبو جاد ، وهوز ، وحطي ، وكلمن ، وسعفص ، وقرشت ، ملوك مدين ، وكان ملكهم في زمن شعيب عليه السلام يوم الظلة كلمن ، فلما هلك قالت ابنته تبكيه :
كلمن قد هد ركني *** هلكه وسط المحلة
فلهذا عقب ذلك بقوله : { فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } أخبر تعالى هاهنا أنهم أخذتهم الرجفة كما{[11970]} أرجفوا شعيبًا وأصحابه وتوعدوهم بالجلاء ، كما أخبر عنهم في سورة " هود " فقال : { وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ } [ هود : 94 ] والمناسبة في ذلك - والله أعلم - أنهم لما تهكموا بنبي الله شعيب في قولهم : { أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ } [ هود : 87 ] فجاءت الصيحة فأسكتتهم .
وقال تعالى إخبارا عنهم في سورة الشعراء : { فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ الشعراء : 189 ] وما ذاك إلا لأنهم{[11971]} قالوا له في سياق القصة : { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ [ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ{[11972]} ] } [ الشعراء : 187 ] فأخبر أنه{[11973]} أصابهم عذاب يوم الظلة ، وقد اجتمع عليهم ذلك كله : أصابهم عذاب يوم الظلة ، " وهي سحابة أظلتهم فيها شرر من نار ولَهَب{[11974]} ووهَج عظيم ، ثم جاءتهم صيحة من السماء ورجفة من الأرض شديدة من أسفل منهم ، فزهقت الأرواح ، وفاضت النفوس وخمدت الأجساد ، { فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ }
القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَخَذَتْهُمُ الرّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } . .
يقول : فأخذت الذين كفروا من قوم شعيب الرجفة ، وقد بينت معنى الرجفة قبل ، وأنها الزلزلة المحرّكة لعذاب الله . فأصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جاثِمِينَ على ركبهم موتى هلكى .
وكانت صفة العذاب الذي أهلكهم الله به كما :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَإلى مَدْيَنَ أخاهُمْ شُعَيْبا قال : إن الله بعث شعيبا إلى مَدْينَ ، وإلى أصحاب الأيكة والأيكة : هي الغيضة من الشجر وكانوا مع كفرهم يبخَسُون الكيل والميزان ، فدعاهم فكذّبوه ، فقال لهم ما ذكر الله في القرآن ، وما ردّوا عليه ، فلما عتوا وكذّبوه ، سألوه العذاب ، ففتح الله عليهم بابا من أبواب جهنم ، فأهلكهم الحرّ منه ، فلم ينفعهم ظلّ ولا ماء ، ثم إنه بعث سحابة فيها ريح طيبة ، فوجدوا برد الريح وطيبها ، فتنادوا : الظلة ، عليكم بها فلما اجتمعوا تحت السحابة رجالهم ونساؤهم وصبيانهم ، انطبقت عليهم ، فأهلكتهم ، فهو قوله : فَأخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمَ الظّلّةِ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : كان من خبر قصة شعيب وخبر قومه ، ما ذكر الله في القرآن ، كانوا أهلَ بخْس للناس في مكاييلهم وموازينهم ، مع كفرهم بالله وتكذيبهم نبيهم وكان يدعوهم إلى الله وعبادته وترك ظلم الناس وبخسهم في مكاييلهم وموازينهم فقال نُصْحا لهم وكان صادقا : ما أُرِيدُ أنْ أُخالِفَكُمْ إلى ما أنهاكُمْ عَنْهُ إنْ أُرِيدُ إلاّ الإصْلاحَ ما اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقي إلا باللّهِ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَإلَيْهِ أُنِيبُ قال ابن إسحاق : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر لي يعقوب بن أبي سلمة إذا ذكر شعيبا ، قال : «ذَاكَ خَطِيبُ الأنْبِياءِ » لحسن مراجعته قومه فيما يراد بهم ، فلما كذبوه وتوعدوه بالرجم والنفي من بلادهم ، وعتوا على الله ، أخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم ، فبلغني أن رجلاً من أهل مدين يقال له عمرو بن جلهاء لما رآها قال :
يا قَوْمِ إنّ شُعَيْبا مُرْسَلٌ فَذَرُوا ***عَنْكُمْ سَمِيرا وعِمْرَانَ بْنَ شَدّادِ
إنّي أرَى غَيْمَةً يا قومِ قد طَلَعَتْ ***تَدْعُو بصَوْتٍ على صَمّانَة الوَادِي
وإنّكم إنْ تَرَوْا فِيها ضَحاةَ غَدٍ ***إلاّ الرّقِيمَ يُمَشّي بينَ أنجادِ
وسمير وعمران : كاهناهم ، والرقيم : كلبهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، قال : فبلغني والله أعلم أن الله سلط عليهم الحرّ حتى أنضجهم ، ثم أنشأ لهم الظلة كالسحابة السوداء ، فلما رأوها ابتدروها يستغيثون ببردها مما هم فيه من الحرّ ، حتى إذا دخلوا تحتها أُطبقت عليهم ، فهلكوا جميعا ، ونجى الله شعيبا والذين آمنوا معه برحمته .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني أبو عبد الله البجلي ، قال : أبو جاد ، وهوّز ، وحُطي ، وسعفص ، وقرشت : أسماء ملوك مدين ، وكان ملكهم يوم الظلة في زمان شعيب كلمون ، فقالت أخت كلمون تبكيه :
كَلَمُونُ هَدّ رُكْنِي ***هُلْكُهُ وَسْطَ المَحِلّهْ