ثم أخبر عن حكمه بينهم بالقسط والعدل ، فقال { فأما الذين كفروا } أي : بالله وآياته ورسله { فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة } أما عذاب الدنيا ، فهو ما أصابهم الله به من القوارع والعقوبات المشاهدة والقتل والذل ، وغير ذلك مما هو نموذج من عذاب الآخرة ، وأما عذاب الآخرة فهو الطامة الكبرى والمصيبة العظمى ، ألا وهو عذاب النار وغضب الجبار وحرمانهم ثواب الأبرار { وما لهم من ناصرين } ينصرونهم من عذاب الله ، لا من زعموا أنهم شفعاء لهم عند الله ، ولا ما اتخذوهم أولياء من دونه ، ولا أصدقائهم وأقربائهم ، ولا أنفسهم ينصرون .
ثم فصل سبحانه - هذا الحكم الذى سيحكم به على عباده يوم القيامة فقال : { فَأَمَّا الذين كَفَرُواْ } بى وبما يجب الإيمان به { فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدنيا والآخرة }
أى فأعذبهم عذابا شديداً فى الدنيا بإيقاع العداوة والبغضاء والحروب بينهم ، وبما يشبه ذلك من هزائم وأمراض وشقاء نفس لا يعلم مقدار ألمه إلى الله - تعالى - وأما فى الآخرة فيساقون إلى عذاب النار وبئس القرار .
وقد أكد - سبحانه - شدة هذا العذاب بعدة تاكيدات منها نسبة العذاب إليه - سبحانه - وهو القوى القهار الغالب على كل شيء ، ومنها التأكيد بالمصدر ، ومنها الوصف بالشدة ، ومنها الإخبار بأنه لا ناصر لهم ينصرهم من هذا العذاب الشديد فى قوله - تعالى - { وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } أى ليس لهم من ناصر أياً كان هذا الناصر ، وأيا كانت نصرته ولو كانت نصرة ضئيلة لا وزن لها ولا قيمة .
{ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } وكذلك فعل تعالى{[5091]} بمن كفر بالمسيح من اليهود ، أو غلا فيه وأطراه من النصارى ؛ عَذبهم في الدنيا بالقتل والسبي وأخْذ الأموال وإزالة الأيدي عن الممالك ، وفي الدار الآخرة عَذابُهم أشد وأشق { وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ } [ الرعد : 34 ] .
{ فَأَمّا الّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مّن نّاصِرِينَ }
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { فَأمّا الّذِينَ كَفَرُوا } : فأما الذين جحدوا نبوّتك يا عيسى ، وخالفوا ملتك ، وكذّبوا بما جئتهم به من الحقّ ، وقالوا فيك الباطل ، وأضافوك إلى غير الذي ينبغي أن يضيفوك إليه من اليهود والنصارى ، وسائر أصناف الأديان¹ فإني أعذّبهم عذابا شديدا¹ أما في الدنيا فبالقتل والسباء والذلة والمسكنة¹ وأما في الاَخرة ، فبنار جهنم خالدين فيها أبدا .
{ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } يقول : وما لهم من عذاب الله مانع ، ولا عن أليم عقابه لهم دافع بقوّة ولا شفاعة ، لأنه العزيز ذو الانتقام .
قوله : { فأما الذين كفروا فأعذبهم } إلى قوله { فنوفيهم أجورهم } تفصيل لما أجمل في قوله { فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون } . وقوله { فأعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا والأخرة } المقصود من هذا الوعيدِ هو عذاب الآخرة لأنه وقع في حَيز تفصيل الضمائر من قوله : { فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون } وإنما يكون ذلك في الآخرة ، فذُكِر عذاب الدنيا هنا إدماج . فإن كان هذا مما خاطب الله به عيسى فهو مستعمل في صريح معناه ، وإن كان كلاماً من الله في القرآن خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمونَ ، صح أن يكون مراداً منه أيضاً التعريض بالمشركين في ظلمهم محمداً صلى الله عليه وسلم عن مكابرة منهم وحسد . وتقدم تفسير إسناد المحبة إلى الله عند قوله : قل إن كنتم تحبون الله في هذه السورة .
وجملة { وما لهم من ناصرين } تذييل لجملة { أعذّبهم عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة } أي ولا يجدون ناصرين ينصرونهم علينا في تعذيبهم الذي قدّره الله تعالى .
واعلم أنّ قوله فأعذّبهم عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة قضية جزئية لا تقتضي استمرار العذابين :
فأما عذاب الدنيا فهو يجري على نظام أحوال الدنيا : من شدة وضعف وعدم استمرار ، فمعنى انتفاء الناصرين لهم منه انتفاءُ الناصرين في المدة التي قدّرها الله لتعذيبهم في الدنيا ، وهذا متفاوت ، وقد وَجَد اليهود ناصرين في بعض الأزمان مثل قصة استير في الماضي وقضية فلسطين في هذا العصر .
وأما عذاب الآخرة : فهو مطلق هنا ، ومقيد في آيات كثيرة بالتأييد ، كما قال : { وما هم بخارجين من النار } [ البقرة : 167 ] .
وجملة { والله لا يحب الظالمين } تذييل للتفصيل كله فهي تذييل ثانٍ لجملة { فأعذبهم عذاباً شديداً } بصريح معناها ، أي أعذّبهم لأنهم ظالمون والله لا يحبّ الظالمين وتذييلٌ لجملة { وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات } إلى آخرها ، بكناية معناها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أخبر الله عز وجل عن منزلة الفريقين في الآخرة، فقال: {فأما الذين كفروا}: كفار أهل الكتاب. {فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا}: القتل أو الجزية. {و} في {والآخرة}: عذاب النار. {وما لهم من ناصرين}: من مانعين يمنعونهم من النار...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{فَأمّا الّذِينَ كَفَرُوا}: فأما الذين جحدوا نبوّتك يا عيسى، وخالفوا ملتك، وكذّبوا بما جئتهم به من الحقّ، وقالوا فيك الباطل، وأضافوك إلى غير الذي ينبغي أن يضيفوك إليه من اليهود والنصارى، وسائر أصناف الأديان¹، فإني أعذّبهم عذابا شديدا¹؛ أما في الدنيا؛ فبالقتل والسباء والذلة والمسكنة¹. وأما في الاَخرة؛ فبنار جهنم خالدين فيها أبدا.
{وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}: وما لهم من عذاب الله مانع، ولا عن أليم عقابه لهم دافع بقوّة ولا شفاعة، لأنه العزيز ذو الانتقام.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{فأما الذين كفروا...}، إخبار بما يجعل عليه حالهم من أول أمرهم وليس بإخبار عما يفعل بعد يوم القيامة، لأنه قد ذكر الدنيا وهي قبل، وإنما المعنى، فأما الكافرون فالصنع بهم أنهم يعذبون {عذاباً شديداً في الدنيا} بالأسر والقتل والجزية والذل ومن لم ينله منهم فهو تحت خوفه إذ يعلم أن شرع الإسلام طالب له بذلك، وقد أبرز الوجود هذا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم فصل له الحكم فقال مرهباً لمخالفيه مرغباً لموافقيه، وقدم المخالفين لأن السياق لبيان إذلالهم: {فأما الذين كفروا} أي من الطائفتين {فأعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا} بالذل والهوان والقتل والأسر {والآخرة} بالخزي الدائم {وما لهم من ناصرين} وإن كثر عددهم.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ثم أخبر عن حكمه بينهم بالقسط والعدل، فقال {فأما الذين كفروا} أي: بالله وآياته ورسله {فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة} أما عذاب الدنيا، فهو ما أصابهم الله به من القوارع والعقوبات المشاهدة والقتل والذل، وغير ذلك مما هو نموذج من عذاب الآخرة، وأما عذاب الآخرة فهو الطامة الكبرى والمصيبة العظمى، ألا وهو عذاب النار وغضب الجبار وحرمانهم ثواب الأبرار {وما لهم من ناصرين} ينصرونهم من عذاب الله، لا من زعموا أنهم شفعاء لهم عند الله، ولا ما اتخذوهم أولياء من دونه، ولا أصدقائهم وأقربائهم، ولا أنفسهم ينصرون.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي هذا النص تقرير لجدية الجزاء، وللقسط الذي لا يميل شعرة، ولا تتعلق به الأماني ولا الافتراء..
رجعة إلى الله لا محيد عنها. وحكم من الله فيما اختلفوا فيه لا مرد له. وعذاب شديد في الدنيا والآخرة للكافرين لا ناصر لهم منه.
وكل ما يقوله أهل الكتاب إذن من أنهم لن يدخلوا النار إلا أياما معدودات. وكل ما رتبوه على هذا التميع في تصور عدل الله في جزائه من أماني خادعة.. باطل باطل لا يقوم على أساس.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قوله: {فأما الذين كفروا فأعذبهم} إلى قوله {فنوفيهم أجورهم} تفصيل لما أجمل في قوله {فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون}. وقوله {فأعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا والأخرة} المقصود من هذا الوعيدِ هو عذاب الآخرة لأنه وقع في حَيز تفصيل الضمائر من قوله: {فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون} وإنما يكون ذلك في الآخرة، فذُكِر عذاب الدنيا هنا إدماج. فإن كان هذا مما خاطب الله به عيسى فهو مستعمل في صريح معناه، وإن كان كلاماً من الله في القرآن خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمونَ، صح أن يكون مراداً منه أيضاً التعريض بالمشركين في ظلمهم محمداً صلى الله عليه وسلم عن مكابرة منهم وحسد. وتقدم تفسير إسناد المحبة إلى الله عند قوله: قل إن كنتم تحبون الله في هذه السورة.
وجملة {وما لهم من ناصرين} تذييل لجملة {أعذّبهم عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة} أي ولا يجدون ناصرين ينصرونهم علينا في تعذيبهم الذي قدّره الله تعالى.
واعلم أنّ قوله فأعذّبهم عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة قضية جزئية لا تقتضي استمرار العذابين:
فأما عذاب الدنيا فهو يجري على نظام أحوال الدنيا: من شدة وضعف وعدم استمرار، فمعنى انتفاء الناصرين لهم منه انتفاءُ الناصرين في المدة التي قدّرها الله لتعذيبهم في الدنيا، وهذا متفاوت، وقد وَجَد اليهود ناصرين في بعض الأزمان مثل قصة استير في الماضي وقضية فلسطين في هذا العصر.
وأما عذاب الآخرة: فهو مطلق هنا، ومقيد في آيات كثيرة بالتأبيد، كما قال: {وما هم بخارجين من النار} [البقرة: 167].
وجملة {والله لا يحب الظالمين} تذييل للتفصيل كله فهي تذييل ثانٍ لجملة {فأعذبهم عذاباً شديداً} بصريح معناها، أي أعذّبهم لأنهم ظالمون والله لا يحبّ الظالمين وتذييلٌ لجملة {وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات} إلى آخرها، بكناية معناها.