{ وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ } الذي أطغاه واستغنى به ، وبخل به إذا هلك ومات ، فإنه لا يصحبه إلا عمله الصالح{[1444]} .
وأما ماله [ الذي لم يخرج منه الواجب ] فإنه يكون وبالًا عليه ، إذ لم يقدم منه لآخرته شيئًا .
و " ما " فى قوله - سبحانه - : { وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تردى } يجوز أن تكون نافية . والتردى : السقوط من أعلى إلى أسفل . يقال : تردى فلان من فوق الجبل ، إذا سقط من أعلاه إلى أسفله ، والمراد به هنا : النزول إلى القبر بعد الموت ، أو السقوط فى النار بسبب الكفر والفسوق والعصيان ، من الردى بمعنى الهلاك .
أى : ولا يغنى شيئا عن هذا الشقى الذى بخل واستغنى وكذب بالحسنى ، ماله وجاهه وكل ما كان يملكه فى الدنيا ، إذا سقط يوم القيامة فى النار .
ويجوز أن تكون " ما " استفهامية : ويكون الاستفهام المقصود به الإِنكار والتوبيخ ، أى : وماذا يغنى عن هذا الشقى ماله بعد هلاكه ، وبعد ترديه فى جهنم يوم القيامة ؟ إنه لن يغنى عنه شيئا ماله الذى بخل به فى الدنيا ، بل سيهوى فى جهنم دون أن يشفع له شافع ، أو ينصره ناصر ، وصدق الله إذْ يقول : { وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً } وإن يقول : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ . . . }
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدّىَ * إِنّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىَ * وَإِنّ لَنَا لَلاَخِرَةَ وَالاُولَىَ * فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظّىَ * لاَ يَصْلاَهَآ إِلاّ الأشْقَى * الّذِي كَذّبَ وَتَوَلّىَ * وَسَيُجَنّبُهَا الأتْقَى * الّذِى يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكّىَ } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : وَما يُغْني عَنْهُ مالُهُ : أيّ شيء يدفع عن هذا الذي بخل بماله ، واستغنى عن ربه ، مالُه يوم القيامة إذَا هو تَرَدّى ؟ .
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : إذَا تَرَدّى فقال بعضهم : تأويله : إذا تردّى في جهنم : أي سقط فيها فَهَوى . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا الأشجعيّ ، عن ابن أبي خالد ، عن أبي صالح وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إذَا تَرَدّى قال : في جهنم . قال أبو كُرَيب : قد سمع الأشجعيّ من إسماعيل ذلك .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله : إذَا تَرَدّى قال : إذا تردّى في النار .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إذا مات . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إذَا تَرَدّى قال : إذا مات .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : إذا تَرَدّى قال : إذا مات .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا الأشجعيّ ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : إذا مات .
وأَولَى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : معناه : إذا تردّى في جهنم ، لأن ذلك هو المعروف من التردّي فأما إذا أُريد معنى الموت ، فإنه يقال : رَدِيَ فلان ، وقلما يقال : تردّى .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ وما يغني عنه ماله } الذي بخل به في الدنيا { إذا تردى } يعني إذا مات ، وتردى في النار ...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني جلّ ثناؤه بقوله : "وَما يُغْني عَنْهُ مالُهُ" : أيّ شيء يدفع عن هذا الذي بخل بماله ، واستغنى عن ربه ، مالُه يوم القيامة إذَا هو تَرَدّى ؟ .
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : "إذَا تَرَدّى" ؛
فقال بعضهم : تأويله : إذا تردّى في جهنم : أي سقط فيها فَهَوى ...
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إذا مات ... وأَولَى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : معناه : إذا تردّى في جهنم ، لأن ذلك هو المعروف من التردّي، فأما إذا أُريد معنى الموت ، فإنه يقال : رَدِيَ فلان ، وقلما يقال : تردّى .
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وفي ظاهر قوله تعالى : { وما يغني عنه ماله إذا تردى } دلالة على أن الآية في حقيقة الإعطاء من المال والمنع . ...
( الأول ) : أن يكون ذلك مأخوذا من قولك : تردى من الجبل : قال الله تعالى : { والمتردية والنطيحة } فيكون المعنى : تردى في الحفرة إذا قبر ، أو تردى في قعر جهنم ، وتقدير الآية : إنا إذا يسرناه للعسرى ، وهي النار تردى في جهنم ، فماذا يغني عنه ماله الذي بخل به وتركه لوارثه ، ولم يصحبه منه إلى آخرته ، التي هي موضع فقره وحاجته شيء ........................................................
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
أي وما يفيده ماله الذي تعب في تحصيله وأفنى عمره في حفظه وبطر الحق لأجله إذا هلك من قولهم: تردى من الجبل وفي الهوة، وفي التعبير به إشارة إلى أنه بما قدمه من أعماله الخبيثة ، هو المهلك والموقع لنفسه وهو الحافر على حتفه بظلفه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فإذا تردى وسقط في نهاية العثرات والانحرافات لم يغن عنه ماله الذي بخل به ، والذي استغنى به كذلك عن الله وهداه . . ( وما يغني عنه ماله إذا تردى ) . . والتيسير للشر والمعصية من التيسير للعسرى ، وإن أفلح صاحبها في هذه الأرض ونجا . . وهل أعسر من جهنم ? وإنها لهي العسرى ! .
هكذا ينتهي المقطع الأول في السورة . وقد تبين طريقان ونهجان للجموع البشرية في كل زمان ومكان . وقد تبين أنهما حزبان ورايتان مهما تنوعت وتعددت الأشكال والألوان . وأن كل إنسان يفعل بنفسه ما يختار لها ! فييسر الله له طريقه : إما إلى اليسرى وإما إلى العسرى .
فأما المقطع الثاني فيتحدث عن مصير كل فريق . ويكشف عن نهاية المطاف لمن يسره لليسرى ، ومن يسره للعسرى . وقبل كل شيء يقرر أن ما يلاقيه كل فريق من عاقبة ومن جزاء هو عدل وحق ، كما أنه واقع وحتم .
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
( وما يغني عنه ماله إذا تردى ) . لا يستطيع أن يصطحب ماله من هذه الدنيا ، ولا يستطيع هذا المال إذا اصطحبه أن يقيه من السقوط في نار جهنّم .... وبهذا . . . تحدثت الآيات الكريمات عن مجموعتين :
والثّانية : خاوية الإيمان ، عديمة التقوى ، بخيلة ونموذج المجموعتين موجود في سبب نزول الآيات بوضوح . المجموعة الأولى ، طوت طريقها بيسر بتوفيق اللّه ، واتجهت نحو الجنّة ونعيمها ، بينما المجموعة الثّانية ، واجهت في مسيرتها الحياتية المشاكل المتفاقمة جمعت الأموال الطائلة ، وتركتها وولت تجرّ أذيال الحسرة والهّم والوبال ، ولم تنل سوى العقاب الإلهي . ...