ومن تمام حكمه ، أن يكون حكما بعلم ، فلذلك ذكر إحاطة علمه ، وإحاطة كتابه فقال : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } .
لا يخفى عليه منها خافية ، من ظواهر الأمور وبواطنها ، خفيها وجليها ، متقدمها ومتأخرها ، أن ذلك العلم المحيط بما في السماء والأرض قد أثبته الله في كتاب ، وهو اللوح المحفوظ ، حين خلق الله القلم ، قال له : " اكتب " قال : ما أكتب ؟ قال : " اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة
{ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } وإن كان تصوره عندكم لا يحاط به ، فالله تعالى يسير عليه أن يحيط علما بجميع الأشياء ، وأن يكتب ذلك في كتاب مطابق للواقع .
ثم ختم - سبحانه - هذه الآيات بتأكيد علمه بكل شىء قال : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السمآء والأرض . . } .
أى : لقد علمت - أيها الرسول الكريم - وتيقنت ، أن الله - تعالى - لا يعزب عن علمه مثقال ذرة مما يحصل فى السموات والأرض من أقوال أو أفعال .
{ إِنَّ ذلك } الذى يجرى فى السموات والأرض كائن وثابت { فِي كِتَابٍ } هو اللوح المحفوظ المشتمل على جميع أحوال الخلق .
{ إِنَّ ذلك } الذى ذكرناه لك من الحكم بين الناس ، ومن العلم بأحوالهم ومن تسجيل أعمالهم { عَلَى الله } - تعالى - { يَسِيرٌ } وهين ، لأنه - سبحانه - له الخلق والأمر ، تبارك الله رب العالمين .
وهو الذي يعلم ما في السماء والأرض كله ؛ ومن ضمنه عملهم ونياتهم وهو بها محيط :
( ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض . إن ذلك في كتاب . إن ذلك على الله يسير ) . وعلم الله الكامل الدقيق لا يخفى عليه شيء في السماء ولا في الأرض ، ولا يتأثر بالمؤثرات التي تنسى وتمحو . فهو كتاب يضم علم كل شيء ويحتويه .
وإن العقل البشري ليصيبه الكلال ، وهو يتأمل - مجرد تأمل - بعض ما في السماء والأرض ، ويتصور إحاطة علم الله بكل هذا الحشد من الأشياء والأشخاص ، والأعمال والنيات والخواطر والحركات ، في عالم المنظور وعالم الضمير . ولكن هذا كله ، بالقياس إلى قدرة الله وعلمه شيء يسير : ( إن ذلك على الله يسير ) .
لما أخبر تعالى في الآية قبلها أنه يحكم بين الناس يوم القيامة فيما اختلفوا فيه أتبع ذلك الخير بأن عنده علم كل شيء ليقع الحكم في معلوم ، فخرجت العبارة على طريق التنبيه على علم الله تعالى وإحاطته و { إن ذلك } كله { في كتاب } وهو اللوح المحفوظ وقوله : { إن ذلك على الله يسير } ، يحتمل أَن تكون الإشارة إلى كون ذلك في كتاب وكونه معلوماً ، ويحتمل أن تكون الإشارة إلى الحكم في الاختلاف .
استئناف لزيادة تحقيق التأييد الذي تضمنه قوله { الله يحكم بينكم يوم القيامة } [ الحج : 69 ] ، أي فهو لا يفوته شيء من أعمالكم فيجازي كلاً على حساب عمله ، فالكلام كناية عن جزاء كل بما يليق به .
و { ما في السماء والأرض } يشمل ما يعمله المشركون وما كانوا يخالفون فيه .
والاستفهام إنكاري أو تقريري ، أي أنك تعلم ذلك ، وهذا الكلام كناية عن التسلية أي فلا تضق صدراً مما تلاقيه منهم .
وجملة { إن ذلك في كتاب } بيان للجملة قبلها ، أي يعلم ما في السماء والأرض علماً مفصلاً لا يختلف ، لأنّ شأن الكتاب أن لا تتطرق إليه الزيادة والنُقصان .
واسم الإشارة إلى العمل في قوله { الله أعلم بما تعملون } أو إلى ( مَا ) في قوله : { ما كنتم فيه تختلفون } [ الحج : 69 ] .
والكتاب هو ما به حفظ جميع الأعمال : إما على تشبيه تمام الحفظ بالكتابة ، وإما على الحقيقة ، وهو جائز أن يجعل الله لذلك كتاباً لائقاً بالمغيبات .
وجملة { إن ذلك على الله يسير } بيان لمضمون الاستفهام من الكتابة عن الجزاء .
واسم الإشارة عائد إلى مضمون الاستفهام من الكناية فتأويله بالمذكور . ولك أن تجعلها بياناً لجملة { يعلم ما في السماء والأرض } واسم الإشارة عائد إلى العلم المأخوذ من فعل { يعلم ، } أي أن علم الله بما في السماء والأرض لله حاصل دون اكتساب ، لأن علمه ذاتي لا يحتاج إلى مطالعة وبحث .
وتقديم المجرور على متعلّقه وهو { يسير } للاهتمام بذكره للدلالة على إمكانة في جانب علم الله تعالى .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ألم تعلم} يا محمد {أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك} العلم {في كتاب} يعني: اللوح المحفوظ {إن ذلك} الكتاب {على الله يسير} آية، يعني: هينا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ألم تعلم يا محمد أن الله يعلم كلّ ما في السموات السبع والأرضين السبع، لا يخفى عليه من ذلك شيء، وهو حاكم بين خلقه يوم القيامة، على علم منه بجميع ما عملوه في الدنيا، فمجازي المحسن منهم بإحسانه والمسيء بإساءته. "إنّ ذَلِكَ في كِتَابٍ "يقول تعالى ذكره: إن علمه بذلك في كتاب، وهو أمّ الكتاب الذي كتب فيه ربنا جلّ ثناؤه قبل أن يخلق خلقه ما هو كائن إلى يوم القيامة، "إنّ ذلكَ عَلى اللّهِ يَسِيرٌ"...
وقوله: "إنّ ذَلِكَ عَلى اللّهِ يَسِيرٌ" اختلف في ذلك؛
فقال بعضهم: معناه: إن الحكم بين المختلفين في الدنيا يوم القيامة على الله يسير...
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: إِنَّ كِتَابَ الْقَلَمِ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَا هُوَ كَائِنٌ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ، يَعْنِي: هَيِّنٌ.
وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي أَوْلَى بِتَأْوِيلِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلُهُ: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70]. إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} [الحج: 70] أَقْرَبُ وَهُوَ لَهُ مُجَاوِرٌ مِنْ قَوْلِهِ: {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الحج: 69] مُتَبَاعِدٌ مَعَ دُخُولِ قَوْلِهُ: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الحج: 70] بَيْنَهُمَا؛ فَإِلْحَاقُهُ بِمَا هُوَ أَقْرَبُ أَوْلَى مَا وُجِدَ لِلْكَلَامِ، وَهُوَ كَذَلِكَ مخرجٌ فِي التَّأْوِيلِ صَحِيحٌ.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض} قد ذكرنا في غير موضع أن حرف {ألم} حرف يتوجه إلى وجوه: إلى التعجيب مرة وإلى التنبيه والإيقاظ ثانيا وإلى إيضاح الحجج والبراهين ثالثا.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"ألم تعلم" والمراد به جميع المكلفين. "أن الله يعلم ما في السماء والأرض" من قليل وكثير، لا يخفى عليه شئ من ذلك.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والإحاطة بذلك وإثباته وحفظه عليه {يَسِيرٌ} لأن العالم بالذات لا يتعذر عليه ولا يمتنع تعلق بمعلوم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
لما أخبر تعالى في الآية قبلها أنه يحكم بين الناس يوم القيامة فيما اختلفوا فيه، أتبع ذلك الخبر بأن عنده علم كل شيء، ليقع الحكم في معلوم، فخرجت العبارة على طريق التنبيه على علم الله تعالى وإحاطته...
اعلم أنه تعالى لما قال من قبل {الله يحكم بينكم يوم القيامة} أتبعه بما به يعلم أنه سبحانه عالم بما يستحقه كل أحد منهم، فيقع الحكم منه بينهم بالعدل لا بالجور، فقال لرسوله: {ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض}...
{ألم تعلم} هو على لفظ الاستفهام لكن معناه تقوية قلب الرسول صلى الله عليه وسلم والوعد له وإيعاد الكافرين بأن كل فعلهم محفوظ عند الله لا يضل عنه ولا ينسى...
{إن ذلك في كتاب}. ففيه قولان: أحدهما: وهو قول أبي مسلم أن معنى الكتاب الحفظ والضبط والشد يقال كتبت المزادة أكتبها إذا خرزتها فحفظت بذلك ما فيها، ومعناه ومعنى الكتاب بين الناس حفظ ما يتعاملون به، فالمراد من قوله: {إن ذلك في كتاب} أنه محفوظ عنده. والثاني: وهو قول الجمهور أن كل ما يحدثه الله في السماوات والأرض فقد كتبه في اللوح المحفوظ قالوا وهذا أولى،... فإن قيل فقد يوهم ذلك أن علمه مستفاد من الكتاب وأيضا فأي فائدة في ذلك الكتاب والجواب عن الأول: أن كتبه تلك الأشياء في ذلك الكتاب مع كونها مطابقة للموجودات من أدل الدلائل على أنه سبحانه غني في علمه عن ذلك الكتاب، وعن الثاني: أن الملائكة ينظرون فيه ثم يرون الحوادث داخلة في الوجود على وفقه فصار ذلك دليلا لهم زائدا على كونه سبحانه عالما بكل المعلومات.
أما قوله: {إن ذلك على الله يسير} فمعناه أن كتبه جملة الحوادث مع أنها من الغيب مما يتعذر على الخلق لكنها بحيث متى أرادها الله تعالى كانت فعبر عن ذلك بأنه يسير، وإن كان هذا الوصف لا يستعمل إلا فينا من حيث تسهل وتصعب علينا الأمور، وتعالى الله عن ذلك.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يخبر تعالى عن كمال علمه بخلقه، وأنه محيط بما في السموات وما في الأرض، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، وأنه تعالى علم الكائنات كلها قبل وجودها، وكتب ذلك في كتابه اللوح المحفوظ، كما ثبت في صحيح مسلم، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله قدّر مقادير الخلائق قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء"...
وفي السنن، من حديث جماعة من الصحابة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن. فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة"...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهو الذي يعلم ما في السماء والأرض كله؛ ومن ضمنه عملهم ونياتهم وهو بها محيط:... وعلم الله الكامل الدقيق لا يخفى عليه شيء في السماء ولا في الأرض، ولا يتأثر بالمؤثرات التي تنسى وتمحو. فهو كتاب يضم علم كل شيء ويحتويه. وإن العقل البشري ليصيبه الكلال، وهو يتأمل -مجرد تأمل- بعض ما في السماء والأرض، ويتصور إحاطة علم الله بكل هذا الحشد من الأشياء والأشخاص، والأعمال والنيات والخواطر والحركات، في عالم المنظور وعالم الضمير. ولكن هذا كله، بالقياس إلى قدرة الله وعلمه شيء يسير: (إن ذلك على الله يسير)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أي فهو لا يفوته شيء من أعمالكم فيجازي كلاً على حساب عمله، فالكلام كناية عن جزاء كل بما يليق به...
أي يعلم ما في السماء والأرض علماً مفصلاً لا يختلف، لأنّ شأن الكتاب أن لا تتطرق إليه الزيادة والنُقصان...
{يعلم،} أي أن علم الله بما في السماء والأرض لله حاصل دون اكتساب، لأن علمه ذاتي لا يحتاج إلى مطالعة وبحث...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
أجل، إنّ جميع ذلك قد ثبت في كتاب علم الله الذي لا حدود له، كتاب عالم الوجود وعالم العلّة والمعلول، عالم لا يضيع فيه شيء، فهو في تغيير دائم، حتّى لو خرجت أمواج صوت ضعيف من حنجرة إنسان قبل ألفي عام فانّها لا تنعدم، بل تبقى في هذا الكتاب الجامع لكلّ شيء بدقّة. أي إنّ كلّ ما يجري في هذا الكون مسجّل في لوح محفوظ هو لوح العلم الإلهي، وكلّ هذه الموجودات حاضرة بين يدي الله سبحانه بجميع صفاتها وخصائصها. وهذا من معاني القدرة الإلهيّة التي نلمسها في قوله تعالى: (إنّ ذلك على الله يسير).