{ فقالوا على الله توكلنا } ، اعتمدنا ، ثم دعوا فقالوا ، { ربنا لا تجعلنا فتنةً للقوم الظالمين } ، أي : لا تظهرهم علينا ولا تهلكنا بأيديهم ، فيظنوا أنا لم نكن على الحق فيزدادوا طغياناً . وقال مجاهد : لا تعذبنا بعذاب من عندك ، فيقول قوم فرعون : لو كانوا على الحق لما عذبوا ويظنوا أنهم خير منا فيفتتنوا .
ثم حكى القرآن الكريم جوابهم الذي يدل على صدق يقينهم فقال : { فَقَالُواْ } أى مجيبين لنصيحة نبيهم { على الله } وحده لا على غيره { تَوَكَّلْنَا } واعتمدنا وفوضنا أمورنا إليه .
{ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظالمين } أى يا ربنا لا تجعلنا موضوع فتنة وعذاب للقوم الظالمين . بأن تمكنهم منا فيسوموننا سوء العذاب ، وعندئذ يعتقدون أنهم على الحق ونحن على الباطل ، لأننا لو كنا على الحق - في زعمهم - لما تمكنوا منا ، ولما انتصروا علينا .
واستجاب المؤمنون لهتاف الإيمان على لسان نبيهم :
( فقالوا : على اللّه توكلنا ) . .
ومن ثم توجهوا إلى اللّه بالدعاء :
( ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ) . .
والدعاء بألا يجعلهم اللّه فتنة للقوم الظالمين مقصود به ألا يمكن القوم الظالمين منهم ، فيظن القوم أن تمكنهم من المؤمنين باللّه دليل على أن عقيدتهم هم أصح ولذلك انتصروا وهزم المؤمنون ! ويكون هذا استدراجاً لهم من اللّه وفتنة ليلجوا في ضلالهم . فالمؤمنون يدعون اللّه أن يعصمهم من تسلط الظالمين عليهم ولو لاستدراج الظالمين
وقد كان صادق إيمانهم مع نور الأمر النبوي الذي واجههم به نبيئهم مسرعاً بهم إلى التجرد عن التخوف والمصانعة ، وإلى عقد العزم على التوكل على الله ، فلذلك بادروا بجوابه بكلمة { على الله توكلنا } مشتملة على خصوصية القصر المقتضي تجردهم عن التوكل على غير الله تعالى .
وأشير إلى مبادرتهم بأن عطفت جملة قولهم ذلك على مقالة موسى بفاء التعقيب خلافاً للأسلوب الغالب في حكاية جمل الأقوال الجارية في المحاورات أن تكون غير معطوفة ، فخولف مقتضى الظاهر لهذه النكتة .
ثم ذيَّلوا كلمتهم بالتوجه إلى الله بسؤالهم منه أن يقيهم ضر فرعون ، ناظرين في ذلك إلى مصلحة الدين قبل مصلحتهم لأنهم إن تمكن الكفرة من إهلاكهم أو تعذيبهم قويت شوكة أنصار الكفار فيقولون في أنفسهم : لو كان هؤلاء على الحق لما أصابهم ما أصابهم فيفتتن بذلك عامةُ الكفرة ويظنون أن دينهم الحق .
والفتنة : تقدم تفسيرها آنفاً . وسموا ذلك فتنة لأنها تزيد الناس توغلا في الكفر ، والكفر فتنة . والفتنة مصدر . فمعنى سؤالهم أن لا يجعلهم الله فتنة هو أن لا يجعلهم سبب فتنة ، فتعدية فعل { تجعلنا } إلى ضميرهم المخبر عنه بفتنة تعدية على طريقة المجاز العقلي ، وليس الخبر بفتنة من الإخبار بالمصدر إذ لا يفرضون أن يكونوا فاتنين ولا يسمح المقام بأنهم أرادوا لا تجعلنا مفتونين للقوم الظالمين .
ووصفوا الكفار ب { الظالمين } لأن الشرك ظلم ، ولأنه يشعر بأنهم تلبسوا بأنواع الظلم : ظلم أنفسهم ، وظلم الخلائق ، ثم سألوا ما فيه صلاحهم فطلبوا النجاة من القوم الكافرين ، أي من بطشهم وإضرارهم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فقال قوم موسى لموسى:"عَلى اللّهِ تَوَكّلْنا" أي به وثقنا، وإليه فوّضنا أمرنا.
وقوله: "رَبّنا لا تجعلنا فِتْنَةً للقَوْمِ الظّالِمِينَ "يقول جلّ ثناؤه مخبرا عن قوم موسى أنهم دعوا ربهم فقالوا: يا ربنا لا تختبر هؤلاء القوم الكافرين، ولا تمتحنهم بنا، يعنون قوم فرعون.
وقد اختلف أهل التأويل في المعنى الذي سألوه ربهم من إعاذته ابتلاء قوم فرعون بهم؛
فقال بعضهم: سألوه أن لا يظهرهم عليهم، فيظنوا أنهم خير منهم وأنهم إنما سلطوا عليهم لكرامتهم عليه وهوان الآخرين...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا تسلطهم علينا فيفتنونا... عن مجاهد، قوله: "لاَ تَجْعَلْنا فِتْنَةً للقَوْمِ الظّالِمِينَ" قال: لا تصبنا بعذاب من عندك ولا بأيديهم فيفتتنوا ويقولوا: لو كانوا على حقّ ما سلطنا عليهم وما عذّبوا...
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن القوم رغبوا إلى الله في أن يُجيرهم من أن يكونوا محنة لقوم فرعون وبلاءً، وكلُّ ما كان من أمر كان لهم مصدَّة عن اتباع موسى والإقرار به، وبما جاءهم به، فإنه لا شك أنه كان لهم "فتنة"، وكان من أعظم الأمور لهم إبعادًا من الإيمان بالله ورسوله. وكذلك من المصدَّة كان لهم عن الإيمان: أن لو كان قوم موسى عاجلتهم من الله محنةٌ في أنفسهم، من بلية تنزل بهم، فاستعاذ القوم بالله من كل معنى يكون صادًّا لقوم فرعون عن الإيمان بالله بأسبابهم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ربنا لا تجعلنا فتنة "أي محنة واعتبارا "للقوم الظالمين"...
والفتنة: أصلها البلية، وهي معاملة تظهر الأمور الباطنة. يقال فتنت الذهب اذا أحرقته بالنار ليظهر الخلاص...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَقَالُواْ على الله تَوَكَّلْنَا} إنما قالوا ذلك، لأن القوم كانوا مخلصين، لا جرم أن الله سبحانه قبل توكلهم، وأجاب دعاءهم، ونجاهم وأهلك من كانوا يخافونه، وجعلهم خلفاء في أرضه. فمن أراد أن يصلح للتوكل على ربه والتفويض إليه، فعليه برفض التخليط إلى الإخلاص.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
وجواب هذا الشرط ما دل عليه الماضي من قوله: {فعليه توكلوا}
{فقالوا} أي على الفور كما يقتضيه الفاء {على الله} أي الذي له العظمة كلها وحده {توكلنا} أي فوضنا أمورنا كلها إليه {ربنا} أي أيها الموجد لنا المحسن إلينا {لا تجعلنا فتنة} أي موضع مخالطة بما يميل ويحيل {للقوم الظالمين} أي لا تصبنا أنت بما يظنون به تهاونك بنا فيزدادوا نفرة عن دينك لظنهم أنا على الباطل ولا تسلطهم علينا بما يفتننا عن ديننا فيظنوا أنهم على الحق.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي فامتثلوا الأمر، إذ علموا أنه يتوقف عليه إنجاز الوعد، وصرحوا به في القول، مع الدعاء بأن يحفظهم الله من فتنة القوم الظالمين بالفعل، فإن التوكل على الله الذي هو أكبر مقامات الإيمان لا يكمل إلا بالصبر على الشدائد، والدعاء لا يصح ولا يقبل فيستجاب إلا إذا كان مسبوقا أو مقارنا لاتخاذ الأسباب، وهو أن تعمل ما تستطع، وتطلب من الله أن يسخر لك ما لا تستطيع. ولفظ "فتنة "هنا يحتمل معنى الفاتن والمفتون، فكأنهم قالوا: ربنا لا تسلطهم علينا فيفتنونا، ولا تفتنا بهم فنتولى عن اتباع نبينا، أو نضعف فيه فرارا من شدة ظلمهم لنا، ولا تفتنهم بنا فيزدادوا كفرا وعنادا وظلما بظهورهم علينا، ويظنوا أنهم على الحق وأننا على الباطل، ومن المعقول والثابت –وبالتجارب- أن سوء حال المؤمنين وأهل الحق في أي حال من ضعف أو فقر أو عمل مذموم يجعلهم موضعا أو موضوعا لافتتان الكفار وأهل الباطل بهم، باعتقاد أنهم هم خير منهم... فكيف إذا خذل أهل الحق حقهم، وكفروا نعمة ربهم؟
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والدعاء بألا يجعلهم اللّه فتنة للقوم الظالمين مقصود به ألا يمكن القوم الظالمين منهم، فيظن القوم أن تمكنهم من المؤمنين باللّه دليل على أن عقيدتهم هم أصح ولذلك انتصروا وهزم المؤمنون! ويكون هذا استدراجاً لهم من اللّه وفتنة ليلجوا في ضلالهم. فالمؤمنون يدعون اللّه أن يعصمهم من تسلط الظالمين عليهم ولو لاستدراج الظالمين...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وقد كان صادق إيمانهم مع نور الأمر النبوي الذي واجههم به نبيئهم مسرعاً بهم إلى التجرد عن التخوف والمصانعة، وإلى عقد العزم على التوكل على الله، فلذلك بادروا بجوابه بكلمة {على الله توكلنا} مشتملة على خصوصية القصر المقتضي تجردهم عن التوكل على غير الله تعالى.
وأشير إلى مبادرتهم بأن عطفت جملة قولهم ذلك على مقالة موسى بفاء التعقيب خلافاً للأسلوب الغالب في حكاية جمل الأقوال الجارية في المحاورات أن تكون غير معطوفة، فخولف مقتضى الظاهر لهذه النكتة.
ثم ذيَّلوا كلمتهم بالتوجه إلى الله بسؤالهم منه أن يقيهم ضر فرعون، ناظرين في ذلك إلى مصلحة الدين قبل مصلحتهم لأنهم إن تمكن الكفرة من إهلاكهم أو تعذيبهم قويت شوكة أنصار الكفار فيقولون في أنفسهم: لو كان هؤلاء على الحق لما أصابهم ما أصابهم فيفتتن بذلك عامةُ الكفرة ويظنون أن دينهم الحق.
والفتنة: تقدم تفسيرها آنفاً. وسموا ذلك فتنة لأنها تزيد الناس توغلا في الكفر، والكفر فتنة. والفتنة مصدر. فمعنى سؤالهم أن لا يجعلهم الله فتنة هو أن لا يجعلهم سبب فتنة، فتعدية فعل {تجعلنا} إلى ضميرهم المخبر عنه بفتنة تعدية على طريقة المجاز العقلي، وليس الخبر بفتنة من الإخبار بالمصدر إذ لا يفرضون أن يكونوا فاتنين ولا يسمح المقام بأنهم أرادوا لا تجعلنا مفتونين للقوم الظالمين.
ووصفوا الكفار ب {الظالمين} لأن الشرك ظلم، ولأنه يشعر بأنهم تلبسوا بأنواع الظلم: ظلم أنفسهم، وظلم الخلائق، ثم سألوا ما فيه صلاحهم فطلبوا النجاة من القوم الكافرين، أي من بطشهم وإضرارهم.