أي : { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا } لأجل عنايتنا ورحمتنا ولطفنا وحسن تعليمنا { لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ } تتضح به الحقائق وتعرف به الأمور وتنقطع به الحجة . وهذا عام في الأمثال التي يضربها اللّه في تقريب الأمور المعقولة بالمحسوسة . وفي الإخبار بما سيكون وجلاء حقيقته [ حتى ]{[657]} كأنه وقع .
ومنه في هذا الموضع ذكر اللّه تعالى ما يكون يوم القيامة وحالة المجرمين فيه وشدة أسفهم وأنه لا يقبل منهم عذر ولا عتاب .
ولكن أبى الظالمون الكافرون إلا معاندة الحق الواضح ولهذا قال : { وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ } أي : أي آية تدل على صحة ما جئت به { لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُبْطِلُونَ } أي : قالوا للحق : إنه باطل . وهذا من كفرهم وجراءتهم وطَبْعِ اللّه على قلوبهم وجهلهم المفرط ولهذا قال : { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } فلا يدخلها خير ولا تدرك الأشياء على حقيقتها بل ترى الحق باطلا والباطل حقا .
{ فَاصْبِرْ } على ما أمرت به وعلى دعوتهم إلى اللّه ، ولو رأيت منهم إعراضا فلا يصدنك ذلك .
ثم يعقب - سبحانه - على هذا التطاول والغرور بقوله : { كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الذين لاَ يَعْلَمُونَ } . والطبع : الختم على الشئ حتى لا يخرج منه ما هو بداخله . ولا يدخل فيه ما هو خارج عنه .
أى : مثل هذا الطبع العجيب ، يطبع الله - تعالى على قلوب هؤلاء الذين لا يعلمون ، ولا يعملون على إزالة جهلهم ، لتوهمهم أنهم ليسوا بجهلاء ، وهذا أسوأ أنواع الجهل ، لأنه جهل مركب ، إذ صاحبه يجهل أنه جاهل .
ويعقب على هذا الكفر والتطاول :
( كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون ) . .
كذلك . بمثل هذه الطريقة ، ولمثل هذا السبب . فهؤلاء الذين لا يعلمون مطموسو القلوب ، لا تتفتح بصيرتهم لإدراك آيات الله ، متطاولون على أهل العلم والهدى . ومن ثم يستحقون أن يطمس الله على بصيرتهم ، وأن يطبع على قلوبهم ، لما يعلمه سبحانه عن تلك البصائر وهذه القلوب !
ثم أخبر تعالى أن هذا إنما هو من طبعه وختمه على قلوب الجهلة الذين قد حتم عليهم الكفر في الأزل ، وذهب أبو عبيدة إلى أنه من قولهم طبع السيف أي صدىء أشد صدأ{[9343]} .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{كذلك يطبع الله}: هكذا يختم الله عز وجل بالكفر.
{على قلوب الذين لا يعلمون} آية توحيد الله عز وجل، فلما أخبرهم الله عز وجل بالعذاب أنه نازل بهم في الدنيا كذبوه..
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: كذلك يختم الله على قلوب الذين لا يعلمون حقيقة ما تأتيهم به يا محمد من عند الله من هذه العِبر والعظات، والآيات البيّنات، فلا يفقهون عن الله حُجة، ولا يفهمون عنه ما يتلو عليهم من آي كتابه، فهم لذلك في طغيانهم يتردّدون.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{لا يعلمون} يخرج على وجهين: أحدهما: لم يعلموا لما لم يتأملوا، ولم ينظروا، في أسباب العلم لكي يعلموا، ولا عذر لهم في جهلهم، ذلك لما أعطوا أسباب العلم. لكنهم لم يستعملوها. فمنهم جاء ذلك فلم يعذروا.
الثاني: نفى عنهم العلم على وجود العلم لهم وكونه لما لم ينتفعوا بما علموا على ما ذكرنا من نفي الحواس عنهم مع وجودها وكونها لهم لما لم ينتفعوا بها، ولم يستعملوها في ما جعلت، وأنشئت لها. فعلى ذلك العلم.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
الطبع والختم بمعنى واحد، وهو الذي يمنع القلب من البصر...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
مثل ذلك الطبع يطبع الله على قلوب الجهلة. ومعنى طبع الله: منع الألطاف التي ينشرح لها الصدور حتى تقبل الحق، وإنما يمنعها من علم أنها لا تجدي عليه ولا تغني عنه، كما يمنع الواعظ الموعظة من يتبين له أنّ الموعظة تلغو ولا تنجع فيه، فوقع ذلك كناية عن قسوة قلوبهم وركوب الصدأ والرين إياها، فكأنه قال: كذلك تقسو وتصدأ قلوب الجهلة، حتى يسموا المحقين مبطلين، وهم أعرق خلق الله في تلك الصفة...
ثم بين تعالى أن ذلك بطبع الله على قلوبهم بقوله: {كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون} فإن قيل من لا يعلم شيئا أية فائدة في الإخبار عن الطبع على قلبه؟ نقول المعنى هو أن من لا يعلم الآن فقد طبع الله على قلبه من قبل،...
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون} لا يطلبون العلم ويصرون على خرافات اعتقدوها فإن الجهل المركب يمنع إدراك الحق ويوجب تكذيب المحق...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان من أعجب العجب أن من يدعي العقل يصر على التكذيب بالحق، ولا يصغي لدليل، ولا يهتدي لسبيل، قال مستأنفاً في جواب من سأله: هل يكون مثل هذا الطبع؟ ومرغباً في العلم: {كذلك} أي مثل هذا الطبع العظيم جداً.
ولما كان كون الشيء الواحد لناس هداية ولناس ضلالة جامعاً إلى العظمة تمام العلم والحكمة، صرف الخطاب عنها إلى الاسم الأعظم الجامع فقال: {يطبع الله} أي الذي لا كفوء له، فمهما أراد كان، عادة مستمرة.
ونبه على كثرة المطبوع عليهم بجمع الكثرة فقال: {على قلوب الذين لا يعلمون} أي لا يجددون -أي لعدم القابلية- العلم بأن لا يطلبوا علم ما يجهلونه مما حققه هذا الكتاب من علوم الدنيا والآخرة رضىً منهم بما عندهم من جهالات سموها دلالات، وضلالات ظنوها هدايات وكمالات...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
كذلك، بمثل هذه الطريقة، ولمثل هذا السبب. فهؤلاء الذين لا يعلمون مطموسو القلوب، لا تتفتح بصيرتهم لإدراك آيات الله، متطاولون على أهل العلم والهدى. ومن ثم يستحقون أن يطمس الله على بصيرتهم، وأن يطبع على قلوبهم، لما يعلمه سبحانه عن تلك البصائر وهذه القلوب!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والطبع على القلب: تصييره غير قابل لفهم الأمور الدينية وهو الختم.
إن قلت: فمن المصلحة أن تظل قلوبهم مفتوحة لعلها تستقبل شيئا من الهداية والنور. نقول: الختم على قلوب هؤلاء لا يكون إلا بعد استنفاد كل وسائل الدعوة، فلم يستجيبوا فلا أمل في هدايتهم ولا جدوى من سماعهم. والحق سبحانه وتعالى ربّ يعين عبده على ما يحب ويلبي له رغبته، حتى وإن كانت الكفر، وهؤلاء أرادوا الكفر وأحبوه، فأعانهم الله على ما أرادوا، وختم على قلوبهم حتى لا يدخلها إيمان، ولا يفارقها كفر.
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :
- أسوأ أحوال الإِنسان عندما يطبع على قلبه لكثرة ذنوبه فيصبح لا يفهم ولا يعقل شيئاً وفي الخبر حبك الشيء يعمي ويصم...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
... ممّا يسترعي الانتباه أنّ في الآيات السابقة ذكر العلم أساساً للإيمان، وفي هذه الآية ذُكر الجهل أساساً للكفر وعدم التسليم للحق...