{ هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى } أي : هذا الرسول القرشي الهاشمي محمد بن عبد الله ، ليس ببدع من الرسل ، بل قد تقدمه من الرسل السابقين ، ودعوا إلى ما دعا إليه ، فلأي شيء تنكر رسالته ؟ وبأي حجة تبطل دعوته ؟
أليست أخلاقه [ أعلا ] أخلاق الرسل الكرام ، أليست دعوته إلى كل خير والنهي عن كل شر{[915]} ؟ ألم يأت بالقرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد ؟ ألم يهلك الله من كذب من قبله من الرسل الكرام ؟ فما الذي يمنع العذاب عن المكذبين لمحمد سيد المرسلين ، وإمام المتقين ، وقائد الغر المحجلين ؟
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بهذا الانذار الشديد ، فقال - تعالى - : { هذا نَذِيرٌ مِّنَ النذر الأولى } والنذير بمعنى المنذر ، وهو من يخبر غيره بخبر فيه مضرة به ، لكى يحذره . أى : هذا الرسول الكريم ، وما جاء به من قرآن حكيم ، نذير لكم - أيها الناس - من جنس الإنذارات الأولى . التى أتى بها الأنبياء السابقون لأممهم فاحذروا مخالفة رسولنا - صلى الله عليه وسلم - لأن مخالفته تؤدى إلى هلاككم وخسرانكم .
فقوله - تعالى - : { مِّنَ النذر } على حذف مضاف ، أى : من جنس النذر التى سبقت . .
وعلى مصارع الغابرين المكذبين بالنذر - بعد استعراض مظاهر المشيئة وآثارها في الأنفس والآفاق - يلقي بالإيقاع الأخير قويا عميقا عنيفا . كأنه صيحة الخطر قبيل الطامة الكبرى :
( هذا نذير من النذر الأولى . أزفت الآزفة . ليس لها من دون الله كاشفة ) . .
هذا الرسول الذي تتمارون في رسالته وفي نذارته . هذا نذير من النذر الأولى التي أعقبها ما أعقبها !
وقوله : { هذا نذير } يحتمل أن يشير إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا قول قتادة وأبي جعفر ومحمد بن كعب القرظي ، ويحتمل أن يشير إلى القرآن ، وهو تأويل قوم ، وقال أبو مالك : الإشارة بهذا النذير إلى ما سلف من الأخبار عن الأمم . و : { نذير } يحتمل أن يكون بناء اسم فاعل ، ويحتمل أن يكون مصدراً ، ونذر جمع نذير . وقال { الأولى } بمعنى أنه في الرتبة والمنزلة والأوصاف من تلك المتقدمة ، والأشبه أن تكون الإشارة إلى محمد .
استئناف ابتدائي أو فذلكةٌ لما تقدم على اختلاف الاعتبارين في مرجع اسم الإِشارة فإن جعلتَ اسم الإِشارة راجعاً إلى القرآن فإنه لحضوره في الأذهان ينزل منزلة شيء محسوس حاضر بحيث يشار إليه ، فالكلام انتقال اقتضابي تنهية لما قبله وابتداءٌ لما بعد اسم الإِشارة على أسلوب قوله تعالى : { هذا بلاغ للناس } [ إبراهيم : 52 ] .
والكلام موجه إلى المخاطبين بمعظم ما في هذه السورة فلذلك اقتصر على وصف الكلام بأنه نذير ، دون أن يقول : نذير وبشير ، كما قال في الآية الأخرى { إن أنا إلاّ نذير وبشير لقوم يؤمنون } [ الأعراف : 188 ] .
والإِنذار بعضه صريح مثل قوله : { ليجزي الذين أساءوا بما عملوا } [ النجم : 31 ] الخ ، وبعضه تعريض كقوله : { وأنه أهلك عاداً الأولى } [ النجم : 50 ] وقوله : { وأن إلى ربك المنتهى } [ النجم : 42 ] .
وإن جعلتَ اسم الإِشارة عائداً إلى ما تقدم من أول السورة بتأويله بالمذكور ، أو إلى ما لم ينبأ به الذي تولى وأعطى قليلاً ، ابتداءً من قوله : { أم لم ينبأ بما في صحف موسى } [ النجم : 36 ] إلى هنا على كلا التأويلين المتقدمين ، فتكون الإِشارة إلى الكلام المتقدم تنزيلاً لحضوره في السمع منزلة حضوره في المشاهدة بحيث يشار إليه .
و« النذر » حقيقته المخبر عن حدوث حدث مضرّ بالمخبَر { بالفتح } ، وجمعه : نُذر ، هذا هو الأشهر فيه . ولذلك جعل ابن جريج وجمع من المفسرين الإِشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم وهو بعيد .
ويطلق النذير على الإِنذار وهو خبر المخبِر على طريقة المجاز العقلي . قال أبو القاسم الزجاجي : يطلق النذير على الإِنذار { يريد أنه اسم مصدر } ومنه قوله تعالى : { فستعلمون كيف نذير } [ الملك : 17 ] أي إنذاري وجمعه نُذر أيضاً ، ومنه قوله تعالى : { كذبت ثمود بالنذر } [ القمر : 23 ] ، أي بالمنذِرين . وإطلاق نذير على ما هو كلام وهو القرآن أو بعض آياته مجاز عقلي ، أو استعارة على رأي جمهور أهل اللغة وهو حقيقة على رأي الزجاجي .
والمراد بالنذر الأولى : السالفة ، أي أن معنى هذا الكلام من معاني الشرائع الأولى كقوله النبي : " إنّ مما أدرك الناسُ من كلام النبوءة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئتَ " أي من كلام الأنبياء قبل الإِسلام .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{هذا نذير من النذر الأولى} فيها تقديم، يقول: هذا الذي أخبر عن هلاك الأمم الخالية، يعني قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط، يخوف كفار مكة ليحذروا معصيته...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النّذُرِ الأُولى "اختلف أهل التأويل في معنى قوله جل ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم "هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النّذُرِ الأُولى" ووصفه إياه بأنه من النذر الأولى وهو آخرهم؛
فقال بعضهم: معنى ذلك: أنه نذير لقومه، وكانت النذر الذين قبله نُذرا لقومهم...
وقال آخرون: معنى ذلك غير هذا كله، وقالوا: معناه هذا الذي أنذرتكم به أيها القوم من الوقائع التي ذكرت لكم أني أوقعتها بالأمم قبلكم من النذر التي أنذرتها الأمم قبلكم في صحف إبراهيم وموسى... عن أبي مالك: "هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النّذُر الأُولى" قال: مما أنذروا به قومهم في صحف إبراهيم وموسى.
وهذا الذي ذكرت، عن أبي مالك أشبه بتأويل الآية، وذلك أن الله تعالى ذكره ذكر ذلك في سياق الآيات التي أخبر عنها أنها في صحف إبراهيم وموسى نذير من النّذر الأولى التي جاءت الأمم قبلكم كما جاءتكم، فقوله: هَذَا بأن تكون إشارة إلى ما تقدمها من الكلام أولى وأشبه منه بغير ذلك.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{هذا} القرآن {نَذِيرٌ مّنَ النذر الأولى} أي إنذار من جنس الإنذارات الأولى التي أنذر بها من قبلكم. أو هذا الرسول منذر من المنذرين الأولين...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{من النذر الأولى} يجب له ما وجب لهم وأنتم كالمنذرين الأولين، فاحذروا ما حل بالمكذبين منهم وارجوا ما كان للمصدقين.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والكلام موجه إلى المخاطبين بمعظم ما في هذه السورة فلذلك اقتصر على وصف الكلام بأنه نذير، دون أن يقول: نذير وبشير، كما قال في الآية الأخرى {إن أنا إلاّ نذير وبشير لقوم يؤمنون} [الأعراف: 188]. والإِنذار بعضه صريح مثل قوله: {ليجزي الذين أساءوا بما عملوا} [النجم: 31] الخ، وبعضه تعريض كقوله: {وأنه أهلك عاداً الأولى} [النجم: 50] وقوله: {وأن إلى ربك المنتهى} [النجم: 42]. وإن جعلتَ اسم الإِشارة عائداً إلى ما تقدم من أول السورة بتأويله بالمذكور، أو إلى ما لم ينبأ به الذي تولى وأعطى قليلاً، ابتداءً من قوله: {أم لم ينبأ بما في صحف موسى} [النجم: 36] إلى هنا على كلا التأويلين المتقدمين، فتكون الإِشارة إلى الكلام المتقدم تنزيلاً لحضوره في السمع منزلة حضوره في المشاهدة بحيث يشار إليه...والمراد بالنذر الأولى: السالفة، أي أن معنى هذا الكلام من معاني الشرائع الأولى كقوله النبي: "إنّ مما أدرك الناسُ من كلام النبوءة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئتَ " أي من كلام الأنبياء قبل الإِسلام.
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
في الآيات توكيد بأن الإنذار القرآني الذي يبلغه النبي صلى الله عليه وسلم للناس هو من جنس النذر الأولى التي أرسلها الله على لسان رسله الأولين، وهتاف بقرب مجيء يوم القيامة الذي ليس لأحد منه معاذ إلا الله والاستجابة لدعوته، وخطاب تنديدي موجه إلى الكفار بسبب مقابلتهم نذير الله وقرآنه بالعجب والضحك والإعراض في حين أن الأولى بهم أن يخافوا ويبكوا من هول ما ينذرون به، وقد انتهت الآيات بأمر السامعين بالسجود لله وعبادته كأنما تهتف بهم بأن هذا هو ما يجب أن يفعلوه...
والآية الأولى خاصة جاءت معقبة على الآيات السابقة فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم ليست بدعا يستدعي الاستغراب ويثير العجب. والقرآن ليس هو الكتاب الوحيد الذي أوحى الله به. وهذا وذاك مما جرى من سنن الله في إنذار البشر منذ الأزمنة الأولى كما أنهما متصلان في أهدافهما ومضامينهما بما أرسل الله من رسل وأوحى إليهم من كتب، وهذا المعنى قد تكرر كثيرا في القرآن، والمتبادر أنه استهدف تأنيب الكفار على مواقفهم من جهة وتقرير وحدة الأسس والمصدر بين دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ودعوة الأنبياء السابقين عليهم السلام من جهة أخرى، ولما كان السامعون والكفار منهم يعرفون خبر رسالات الرسل السابقين كانت الحجة قد قامت عليهم...