قوله تعالى : { يأتوك بكل ساحر عليم } ، قرأ حمزة والكسائي : ( سحار ) هاهنا وفي سورة يونس ، ولم يختلفوا في الشعراء أنه ( سحار ) . قيل : الساحر : الذي يتعلم السحر ولا يعلم ، والسحار : الذي يعلم و يعمل ، وقيل : الساحر من يكون سحره في وقت دون وقت ، والسحار من يديم السحر ، قال ابن عباس ، وابن إسحاق ، والسدي : قال فرعون لما رأى من سلطان الله في العصا ما رأى : إنا لا نغالب إلا بمن هو منه ، فاتخذ غلماناً من بني إسرائيل ، فبعث بهم إلى قرية يقال لها الغوصاء يعلمونهم السحر ، فعلموهم سحراً كثيراً ، ووعد فرعون موسى موعداً ، فبعث إلى السحرة فجاؤوا ومعلمهم معهم ، فقال له : ماذا صنعت ؟ قال : قد علمتهم سحراً لا يطيقه سحرة أهل الأرض ، إلا أن يكون أمراً من السماء ، فإنه لا طاقة لهم به ، ثم بعث فرعون في مملكته ، فلم يترك في سلطانه ساحراً إلا أتى به ، واختلفوا في عددهم ، فقال مقاتل : كانوا اثنين وسبعين ، اثنان من القبط ، وهما رؤساء القوم ، وسبعون من بني إسرائيل ، وقال الكلبي : كان الذين يعلمونهم رجلين مجوسيين من أهل نينوى ، وكانوا سبعين غير رئيسهم ، وقال كعب : كانوا اثني عشر ألفاً ، وقال السدي : كانوا بضعة وثلاثين ألفاً ، وقال عكرمة : كانوا سبعين ألفاً ، وقال محمد بن المنكدر : كانوا ثمانين ألفاً . وقال مقاتل : كان رئيس السحرة شمعون . وقال ابن جريج : كان رئيسهم يوحنا .
ثم حكى القرآن ما أشار به الملأ من قوم فرعون فقال : { قالوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي المدآئن حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ } .
أرجه : أصله أرجئه - وقد قرىء به - حذفت الهمزة وسكنت الهاء ، تشبيها للضمير المنفصل بالضمير المتصل . والإرجاء التأخير . يقال : ارجيت هذا الأمر وارجأته ، إذا أخرته . ومنه { تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ } والمدائن : أى : البلاد جمع مدينة ، وهى من مدن بالمكان - كنصر - إذا أقام به ، و { حَاشِرِينَ } أى : جامعين ، يقال : حشر الناس - من باب نصر وضرب - يحشرهم حشرا إذا جمعهم ، ومنه : يوم الحشر والمحشر .
والمعنى : قال الملأ من قوم فرعون حني استشارهم في أمر موسى : أخر أمره وأمر أخيه ولا تتعجل بالقضاء في شأنهما ، وأرسل في مدائن ملكك رجالا أو جماعات من الشرطة يجمعون إليك السحرة المهرة ، لكى يقفوا في وجه هذا الساحر العليم ، ويكشفوا عن سحره ويبطلوه بسحر مثله أو أشد " وكان السحر في عهد فرعون من الأعمال الغالبة التي يحسنها كثير من أهل مملكته .
وقال بعضهم : الأمر بالتأخير دل على أنه تقدم منه أمر آخر ، وهو الهم بقتله ، فقالوا له : أخره ليتبين حاله للناس .
وقال القاسمى : تدل الآية على معجزة عظيمة لموسى ، وتدل على جهل فرعون وقومه ، حيث لم يعلموا أن قلب العصا حية تسعى لا يقدر عليه إلا الله وتدل على أن من عادة البشر أن من رأى أمراً عظيما أن يعارضه ، فلذلك دعا فرعون بالسحرة وتدل على أنهم أنكروا أمره محافظة على الملك والمال ، لذلك قالوا { يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ } فيدل على أن من أقوى الدواعى إلى ترك الدين ، المحافظة على الرياسة والمال والجاه كما هى عادة الناس في هذا الزمن " .
وقوله { فِي المدآئن } متعلق بأرسل ، و { حَاشِرِينَ } نعت لمحذوف أى : رجالا حاشرين . ومفعوله محذوف . أى : حاشرين السحرة ، بدليل ما بعده .
ولا يذكر السياق القرآنى بعد ذلك أنهم أرسلوا إلى السحرة ، ولا أنهم جمعوهم ، وإنما يترك ذلك للعقل يفهمه حيث لا داعى لذكر هذه التفاصيل
وكانت أرض مصر تموج بالكهنة في شتى المعابد . وكان الكهنة هم الذين يزاولون أعمال السحر . ففي الوثنيات كلها تقريباً يقترن الدين بالسحر ؛ ويزاول السحر كهنة الديانات وسدنة الآلهة ! وهذه الظاهرة هي التي يلتقطها " علماء الأديان ! " فيتحدث بعضهم عن السحر كمرحلة من مراحل تطور العقيدة ! ويقول الملحدون منهم : إن الدين سيبطل كما بطل السحر ! وإن العلم سينهي عهد الدين كما أنهى عهد السحر ! . . إلى آخر هذا الخبط الذي يسمونه : " العلم " !
وقد استقر رأي الملأ من قوم فرعون ، على أن يرجىء فرعون موسى إلى موعد . وأن يرسل في أنحاء البلاد من يجمع له كبار السحرة . ذلك ليواجهوا " سحر موسى " - بزعمهم - بسحر مثله .
وعلى كل ما عرف من طغيان فرعون ، فقد كان في تصرفه هذا أقل طغياناً من طواغيت كثيرة في القرن العشرين ؛ في مواجهة دعوة الدعاة إلى ربوبية رب العالمين ! وتهديد السلطان الباطل بهذه الدعوة الخطيرة !
فلما تشاوروا في شأنه ، وائتمروا فيه ، اتفق رأيهم على ما حكاه الله تعالى عنهم في قوله تعالى :
{ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ }
قال ابن عباس : { أَرْجِهِ } أخّره . وقال قتادة : احبسهُ . { وَأَرْسِلْ } أي : ابعث { فِي الْمَدَائِنِ } أي : في الأقاليم ومعاملة ملكك ، { حَاشِرِينَ } أي : من يحشر لك السحرة من سائر البلاد ويجمعهم .
وقد كان السحر في زمانهم غالبا كثيرا ظاهرا . واعتقد من اعتقد منهم ، وأوهم من أوهم منهم ، أن ما جاء موسى ، عليه السلام ، من قبيل ما تشعبذه{[12006]} سحرتهم ؛ فلهذا جمعوا له السحرة ليعارضوه بنظير ما أراهم من البينات ، كما أخبر تعالى عن فرعون حيث قال : { قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى . فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى . قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى . فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى } [ طه : 57 - 60 ]
جَزْم { يأتوك } على جواب الأمر للدلالة على شدة اتصال السببية بين الإرسال والإتيان ، فالتقدير : إنْ تُرْسل يأتُوك ، وقد قيل : في مثله إنه مجزوم بلام الأمر محْذوفة ، على أن الجملة بدل من { أرسلْ } بدلَ اشتمال . أي : أرسلهم آمراً لهم فليأتوك بكل ساحر عليم ، وهذا الاستعمال كثير في كلام العرب مع فعل القول نحو : { قل لعباديَ الذين آمنوا يُقيموا الصلاة } [ إبراهيم : 31 ] فكذلك ما كان فيه معنى القول كما هنا .
و ( كل ) مستعمل في معنى الكثرة ، أي : بجمع عظيم من السحرة يشبه أن يكون جميع ذلك النوع .
وقرأ الجمهور : { بكل ساحر } وقرأ جمزة ، والكسائي ، وخلف : { بكل سَحّار } ، على المبالغة في معرفة السحر ، فيكون وصف { عليم } تأكيداً لمعنى المبالغة لأن وصف { عليم } الذي هو من أمثلة المبالغة للدلالة على قوة المعرفة بالسحر ، وحذف متعلق { عليم } لأنه صار بمنزلة أفعال السجايا . والمقام يدل على أن المراد قوة علم السحر له .