وعلى ذكر عباد الله المخلصين - الذين استثناهم من تذوق العذاب الأليم - يعرض صفحة هؤلاء العباد المخلصين في يوم الدين . ويعود العرض متبعاً نسق الإخبار المصور للنعيم الذي يتقلبون في أعطافه - في مقابل ذلك العذاب الأليم للمكذبين - :
( أولئك لهم رزق معلوم . فواكه وهم مكرمون . في جنات النعيم . على سرر متقابلين . يطاف عليهم بكأس من معين . بيضاء لذة للشاربين . لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون . وعندهم قاصرات الطرف عين . كأنهن بيض مكنون . . . ) .
وهو نعيم مضاعف يجمع كل مظاهر النعيم . نعيم تستمتع به النفس ويستمتع به الحس . وتجد فيه كل نفس ما تشتهيه من ألوان النعيم .
فهم - أولاً - عباد الله المخلصون . وفي هذه الإشارة أعلى مراتب التكريم . وهم - ثانياً -( مكرمون )في الملأ الأعلى . وياله من تكريم ! ثم إن لهم( فواكه )وهم على ( سرر متقابلين ) . وهم يخدمون فلا يتكلفون شيئاً من الجهد في دار الراحة والرضوان والنعيم : ( يطاف عليهم بكأس من معين . بيضاء لذة للشاربين . لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون ) . . وتلك أجمل أوصاف الشراب ، التي تحقق لذة الشراب ، وتنفي عقابيله . فلا خمار يصدع الرؤوس ، ولا منع ولا انقطاع يذهب بلذة المتاع !
قال مالك ، عن زيد بن أسلم : خمر جارية بيضاء ، أي : لونها مشرق حسن بهى لا كخمر الدنيا في منظرها البشع الرديء ، من حمرة أو سواد أو أصفرار أو كدورة ، {[24957]} إلى غير ذلك مما ينفر الطبع السليم .
وقوله عز وجل : { لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ } أي طعمها طيب كلونها ، وطيب الطعم دليل على طيب الريح ، بخلاف خمر الدنيا في جميع ذلك .
وقوله { بيضاء } يحتمل أن يعود على الكأس ويحتمل أن يعود على الخمر وهو الأظهر ، وقال الحسن بن أبي الحسن : خمر الجنة أشد بياضاً من اللبن ، وفي قراءة عبد الله بن مسعود » صفراء «فهذا موصوف به الخمر وحدها ، وقوله تعالى { لذة } أي ذات لذة فوصفها بالمصدر اتساعاً ، وقد استعمل هذا حتى قيل لذ بمعنى لذيذ ، ومنه قول الشاعر : [ الكامل ]
بحديثك اللذ الذي لو كلّمت . . . أسد الفلاة به أتين سراعا{[9847]}
و{ بَيْضَاءَ } صفة ل« كأس » . وإذ قد أريد بالكأس الخمر الذي فيها كان وصف { بَيْضَاءَ } للخمر . وإنما جرى تأنيث الوصف تبعاً للتعبير عن الخمر بكلمة كأس ، على أن اسم الخمر يذكر ويؤنث وتأنيثها أكثر . روى مالك عن زيد بن أسلم : لونها مشرق حسن فهي لا كخمر الدنيا في منظرها الرديء من حُمرة أو سواد .
واللذة : اسم معناه إدراك ملائم نفس المدرك ، يقال : لذّهُ ولذّ به ، والمصدر : اللذة واللذاذة . وفعله من باب فرح ، تقول : لذذت بالشيء ويقال : شيء لَذٌّ ، أي لذيذ فهو وصف بالمصدر فإذا جاء بهاء التأنيث كما في هذه الآية فهو الاسم لا محالة لأن المصدر الوصف لا يؤنث بتأنيث موصوفه ، يقال : امرأة عدل ولا يقال : امرأة عدلة . ووصف الكأس بها كالوصف بالمصدر يفيد المبالغة في تمكن الوصف ، فقوله تعالى : { لَذَّةٍ } هو أقصى مما يؤدي شدة الالتذاذ بكلمة واحدة ، لأنه عُدل به عن الوصف الأصلي لقصد المبالغة ، وعُدل عن المصدر إلى الاسم لما في المصدر من معنى الاشتقاق .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"بَيْضَاءَ لَذّةٍ للشّارِبِينَ" يعني بالبيضاء: الكأس...
وقوله: "لَذّةٍ للشّارِبينَ "يقول: هذه الخمر لذّة يلتذّها شاربوها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ذكر أن خمورهم في الآخرة بيضاء، لأن في البياض يظهر كل ما فيه من الأذى والآفة، ويرى، فأما في غيره من الألوان فإنه قلّما يظهر، وقلّما يرى إلا بجهد، أو ذكر أنها بيضاء لأن البياض من الألوان المستحسنة في الطباع كلها، وهو المختار عندنا.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{بَيْضَآءَ} أي صافية في نهاية اللطافة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{بيضاء} يحتمل أن يعود على الكأس ويحتمل أن يعود على الخمر وهو الأظهر.
{لذة} أي ذات لذة فوصفها بالمصدر اتساعاً، وقد استعمل هذا حتى قيل لذ بمعنى لذيذ.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} أي طعمها طيب كلونها، وطيب الطعم دليل على طيب الريح، بخلاف خمر الدنيا في جميع ذلك.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{لِلشَّارِبِينَ}... إشارة إلى أنها يلتذ بها الشارب كائناً من كان.
ثم يصف هذه الخمر بأنها (بيضاء) والبيضاء هي أصْفى أنواع الخمر عند العرب.
{لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ} ولم يقُلْ لذيذة.
إنما (لَذَّةٍ) أي: هي في ذاتها لذّة، وكأن اللذة تجسدتْ في هذه الكأس، كما تقول: فلان عادل. فإنْ أردتَ المبالغة في هذا الوصف قُلْتَ: فلان عَدْلٌ.
ووصف الخمر في الآخرة بأنها {لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ} لِيُفرِّق بينها وبين خَمْر الدنيا، لأن خمر الدنيا كما نراهم يشربونها في الأفلام لا تُشرَب للذة، لأنه يضع القليل منها في الكأس، ثم يصبُّها في فمه صَبّاً، ويتناولها على مَضَضٍ لكراهية طعمها.
لكن طالما أن خمر الدنيا لا لَذَّةَ في تعاطيها، فَلِمَ يشربونها؟ يشربونها للأثر الذي ينشأ منها من اختلال العقل الذي يُعَدُّ حارساً على الحركة، وهم يريدون الانطلاق والحرية من هذا الحارس؛ لذلك فأجوَدُ أنواع الخمر عندهم والعياذ بالله، هذه التي تُغيِّبه عن وَعْيه، وتفعل به كذا وكذا.
أما خمر الآخرة فلا يجمعها بهذه إلا اسمها فحسْب، خمر الآخرة لذَّة، تشعر بها حين تتناولها، وتأخذها رشفةً رشفةً على مهل لتتذوَّقَ حلاوتها،
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثمّ ينتقل الحديث إلى وصف كؤوس الشراب، إذ يقول: إنّها بيضاء اللون ومتلألئة وتعطي لذّة للشاربين بها (بيضاء لذّة للشاربين).
وكلمة (بيضاء) اعتبرها بعض المفسّرين صفة لكؤوس الشراب، فيما اعتبرها البعض الآخر صفة للشراب الطهور، ويعني أنّ ذلك الشراب ليس كالأشربة الملوّنة في الدنيا، بل إنّها أشربة طاهرة.